لا شك أن المؤسسات الدعوية هي التي تقف في صدارة المواجهات مع الأعداء التقليديين للأمة الإسلامية سواء كانوا صليبيين أو صهاينة، وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بدراسة هذه التحديات بصورة علمية من أجل تأهيل الجيل الحالي والأجيال القادمة للتمكن من تحقيق نبوءة الرسول الخاتم في حديث الصخرة المشهور بفتح رومية التي هي روما اليوم، التي بها مقر الفاتيكان، وذلك من أجل صناعة المسلم القائد فاتح روما كما سبقه فاتح القسطنطينية.
بداية، يؤكد البروفيسور عبدالوهاب العمري، أستاذ تاريخ الأديان بجامعة العربي بن مهيدي بأم البواقي بالجزائر، لـ«المجتمع»، أن دور المؤسسات الدعوية لن يتوقف عند حدود دعم وإرساء دعائم الحكم الرشيد فحسب؛ بل تتجاوزه إلى المساهمة في صناعة «فاتح روما» الذي تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سيكون صاحب الحكم الراشد، وذلك بعد تحقق نبوءة فاتح القسطنطينية.
ويؤكد د. العمري أن خبراء التسويق يرون أن جودة المنتج هي المعيار الأساس لتسويقه وعرضه للمنافسة السوقية، وهي خاضعة لثلاث مراحل، وهي: المدخلات، والتحولات، ومن ثم المخرجات، فجودة المنتوج أو ما يعبر عنه بالمخرجات، خاضعة هي الأخرى لمجموعة معايير ومقاييس علمية منضبطة، لا محاباة فيها ولا ارتجال خافضة رافعة.
كما يؤكد الخبراء أن قوة وجودة المخرجات ليست خاضعة بالضرورة لجودة وقوة المواد الأولية والمعبّر عنها بالمدخلات؛ بل لقوة وجودة مرحلة أخرى هي مرحلة التحولات -وهي أخطر حلقة في الموضوع- فكلما كانت التحوّلات قوية وفعّالة؛ كانت المخرجات رائعة وتنافسية، وكلما كانت ضعيفة (بدائية تخلفيّة)؛ كانت المخرجات هزيلة رديئة، ولا تصلح للعرض ناهيك عن المنافسة.
ويقول العمري: إن عالم الأفكار والأشخاص كعالم الأشياء يخضع لذات القانون والناموس، فكلما كانت التربية والتكوين على درجة عالية من الرصانة والدقة؛ كان نتاجها إنساناً فعّالاً إيجابياً كالغيث أينما وقع نفع، وإن كانت مرحلة الإعداد والتربية والتكوين هزيلة؛ كان المنتج رديئاً لا يُزيد شيئًا على الدنيا؛ بل هو الزائد عليها كما في قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (النحل: 76).
والدّارس للقرآن الكريم والسُّنة المطهرة ولتراث الأمة الإسلامية يجد هذا الأمر جليّاً، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا من بيئة جاهلية واحدة، ولكنهم ما إن خالطوا المعلّم وتخرجوا في مدرسة النبوة، حتى بلغوا مشارق الأرض ومغاربها وصنعوا التاريخ؛ فبنوا حضارة غيّروا بها خريطة العالم في وقت جدّ وجيز، فقوة وجودة التلقي أورثت روعة في الأداء والممارسة فمثلهم (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح: 29).
المؤسسات الدعوية مطالبة بدراسة التحديات التي تواجه الأمة لتتمكن من صناعة المسلم فاتح روما محقق نبوءة الرسول
ويواصل د. العمري أن الأمر كذلك بالنسبة للمؤسسات التي تعنى بالدعوة والإصلاح الديني والاجتماعي التي يجب في المرحلة الراهنة أن تراجع أهدافها وسلم أولوياتها وتجديد أساليب تحقيق طموحات وأشواق الأمة وحاجاتها الحضارية، وفي مقدمتها صناعة الإنسان الحل بدلاً من الإنسان المُشكِل، ورجل الدولة الذي يُطوع الاقتصاد والإعلام والسياسة والاجتماع وفق نظرة حضارية قيمية بديلة عن النظرة الغربية القاتلة للفطرة والحياة، ولا بد من خوض معركة التحرر والتحرير وفق خطط علمية وإستراتيجية موافقة لسنن الكون والحياة، قابلة للتنفيذ والتجسيد بأيسر السبل التي تحقق الأصالة والمعاصرة معاً.
ويشدد على أن المؤسسات الدعوية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بدراسة التحديات التي تواجه الأمة من جميع النواحي وفق علوم العصر من علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والتربية والتكوين.. إلخ، لتتمكن من فهم واقعها المتخلف لتتجاوزه وتصنع واقعاً آخر يكون بيئة مساعدة على صناعة المسلم فاتح روما ومحقق نبوءة الرسول الأعظم في حديث الصخرة المشهور في غزوة الخندق.
الإبداع الحضاري الإسلامي في مأسسة مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال مؤسسة الحسبة
بينما يؤكد د. محمود النفار، أستاذ أصول الفقه والسياسة الشرعية المساعد بكلية الإلهيات في جامعة «وان» التركية، لـ«المجتمع»، أنه خلال دراسة له حول الحكم الرشيد في ضوء التكليف الكفائي والمنظور الحضاري، خلص إلى أنّ أعظم الوظائف المنوطة بالمؤسسات الدعوية فريضة الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وهي أكثر الوظائف اتصالاً بالحكم الرشيد، الذي هو في جوهره أمر بمعروفات كلية أيضاً كالأمانة والمساءلة والشفافية والمسؤولية، ونهي عن منكرات كلية كالخيانة والرشوة والتزوير والتعسف، ومقصده إقامة العدل الذي هو أساس العمران، وترحال الظلم الذي هو أساس الخراب.
ويضيف د. النفار أن هذه الوظيفة فريضة من فروض الكفايات التي لا تختص بالسلطة بموجب تعاقد الأمة معها، بل هي تعم الأمة بمؤسساتها المختلفة بما فيها مؤسسة السلطة، وهو ما أكده إمام الحرمين في تحقيقه الأنيق بأن «معظم فروض الكفاية متوزعة على العباد في البلاد ولا اختصاص لها بالأئمة، بل يجب على كافة أهل الإمكان ألا يغفلوها، ولا يغفلوا عنها».
وفي ضوء هذا التحقيق يمكن ملاحظة الإبداع الحضاري الإسلامي في مأسسة مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال مؤسسة الحسبة، التي أخذت أشكالاً عديدة، وأنماطاً وافرة، وهياكل متراتبة، ومستويات متنوعة شملت كل مجالات الحياة وجميع مهن المجتمع وشتى أعمال السلطة؛ كما مثلت الحسبة آلية من آليات السلطة للرقابة على ذاتها من خلال الحسبة الرسمية، في الوقت نفسه مثلت آلية من آليات الأمة للرقابة على السلطة بأجهزتها المختلفة وأنظمتها الجمة من خلال الحسبة التطوعية من خلال هذا الامتداد الواسع لمفهوم الحسبة ورحابة تكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن للأمة أن تستعيد فاعليتها وتسترجع حيويتها وتسترد عافيتها بما يساهم في تحقيق الشهود الحضاري.
«طوفان الأقصى» كشف اختلال المؤسسات الدعوية وتراجع دورها في مواكبة هذا الحدث الجلل
هذا، ويواصل د. النفار مؤكداً أن معركة «طوفان الأقصى» قد كشفت عن مدى الاختلال الذي أصاب معمار المؤسسات العلمية والمنظمات الدعوية حتى تراجع دورها في مواكبة هذا الحدث والبناء على آثاره، وهو أمر شديد الصلة بالحكم الرشيد الذي يفرض المسؤولية والمساءلة والمشاركة: مسؤولية هذه المؤسسات في أداء فروض الجهاد المحتم، ومساءلة دورها في الاضطلاع بالمسؤولية، ومشاركتها إرادة الأمة واستعدادها، وهنا تظهر أصالة المفهوم ويتبدى نسبه إلى استخلاف الأمة، بدلاً من تحويله إلى أداة لهيمنة الغرب، وفرض معاييره.
وإن هذه المؤسسات والمنظمات مأمورة اليوم بتجديد ذاتها وتطوير أدواتها من خلال التفاكر والتحاور في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتدبر والتأمل في تجربة الحسبة في التاريخ الإسلامي والانطلاق منهما في دراسة الحكم الراشد، وإقامة أركانه، وتدعيم جدرانه، في ظل رؤية حضارية كلية لا تقف بالحكم الراشد عند أبعاده القانونية الداخلية، بل تلاحظه في أبعاده الفسيحة بما فيها البعد الحضاري الذي يفرض نفسه اليوم في ظل معركة مفتوحة للأمة مع المشروع الصهيوني.
المشروع الصهيوني بامتداداته الغربية أول المنكرات التي يجب إزالتها لأنها تعيق الحكم الراشد
ويقترح د. النفار جملة من الواجبات والاجتهادات المناطة بهذه المؤسسات:
أولاً: تأسيس مرصد للمنكرات الكلية في الأمة والسلطة وفق فقه الأولويات بحيث تتقدم المنكرات الضرورية على الحاجية، والمتعدية على القاصرة، والإستراتيجية على التكتيكية، ويعد المشروع الصهيوني بامتداداته الغربية اليوم أول المنكرات التي تعيق الحكم الراشد في الجغرافيا المترامية للأمة.
ثانياً: عقد مجالس شورى جماعية تجمع العلماء والخبراء للخروج برؤى إستراتيجية كلية تبغي التنزيل وسياسات دعوية عامة تروم الضبط، وهو ما يتطلب عدم الوقوف عند أعمال التأصيل والتقعيد والانتقال منها نحو فقه التشغيل والتوظيف وفقه الذرائع والوسائل.
ثالثاً: العبور بالحكم الرشيد من حقول المتخصصين ومحاريب الفقهاء إلى منتديات المثقفين ووسائل الإعلام ومنصات التواصل.
رابعاً: النجاح في اختبار النموذج والقدوة من خلال تطهير المؤسسات العلمية والمنظمات الدعوية من مظاهر الفساد الذي يحتجب وراء الثقة والطاعة والمكانة، ويستتر خلف الإحسان والإكرام والإنعام، وينبغي محاصرة هذه المظاهر بمواثيق بانية، وسياسات هادية، وإستراتيجيات مشيدة تتداعى لها هذه المؤسسات والمنظمات، وتجعل في كل مؤسسة زمرة من المحتسبين يراقبون التزامها وانضباطها ومسؤوليتها بتلك المواثيق والسياسيات والإستراتيجيات وبما حباهم الله من عظيم الأمانة ومضاء البصيرة وحدة الفطنة.