معلوم أن الإسلام دين يُصْلح جميع جوانب الحياة، وذلك من خلال شعائره وشرائعه التي تستوعب الكيان الإنساني كله، ومن الشعائر الإسلامية التي تسهم في إصلاح حياة الإنسان عبادة الصوم.
فالصوم ركن من أركان الإسلام، وهو يسهم بدور فاعل في بناء الصرح الحضاري للأمة الإسلامية، لكن الصيام المقصود هنا ليس صيام العوام؛ الذي يعتمد على ترك الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقط، مع ترك العنان للسان والجوارح في إتيان المعاصي وارتكاب ما نهى الله عنه.
إن الصيام الذي يسهم في البناء الحضاري هو الصيام الحقيقي، الذي تتربى به النفس الإنسانية، وتنضبط به السلوكيات الفردية والاجتماعية، وتنتفع بثمراته كل الأطياف البشرية، ويتجلى ذلك في المظاهر الآتية:
أولاً: دور الصيام في التأسيس للبناء الحضاري وحمايته:
لقد أوضح الشرع الإسلامي أركان الصيام، وهي الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية الصيام(1)، فالصيام له حدود زمانية ومكانية وأدائية، ولهذه الأركان والحدود آثارها على النفس الإنسانية، فالمسلم يصوم في وقت معين، ومكان معين، وطريقة معينة، ولا يمكن له أن يجتهد في تغيير شيء من ذلك، بل لا بد من الالتزام الكامل بهذا البرنامج الثابت، حتى يصل الصائم إلى هدفه المرسوم.
وينعكس هذا الالتزام بجوانبه الثلاثة على الحياة الإنسانية؛ فيضبط المواعيد، ويحدد المكان الأفضل، والطريقة المثلى لأداء الأعمال على الوجه المطلوب، دون زيادة أو نقصان، ويمثل هذا الالتزام نقطة التأسيس للبناء الحضاري الذي يؤمن فيه الفرد بأهمية الانضباط في أقواله وأفعاله ومواعيده وأماكن عمله.
كما يسهم الصيام في تربية النفس التي يقوم عليها البناء الحضاري من خلال الحرص على تأمين هذا البناء وحمايته من كل مظاهر الخلل والاضطراب، فالصائم يمتنع من قول الزور ورد الأذى، حتى يحافظ على صومه، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ».
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
وهنا يتبين أن الصيام عبادة تقوم على جناحين؛ الأول: البناء؛ الذي يعني حسن الأداء، والثاني: الحماية؛ التي تعني المحافظة على العمل من كل ما ينقص أجره أو يضيع ثمرته.
وكذلك البناء الحضاري، يقوم على حسن الأداء مع توفير الأمن والحماية.
ثانياً: دور الصيام في الوصول إلى الأهداف وتحقيق الغايات:
لقد أوضح الله تعالى أن الصيام له غاية يجب أن يضعها المسلم أمام عينيه ويرغب في تحقيقها، ويسعى في الوصول إليها؛ وهي التقوى، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21).
كما بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصيام سبيل إلى مغفرة الذنوب، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ».
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الصيام سبيل إلى دخول الجنة، ففي صحيح البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ له: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منه الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ منه أحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ منه أحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ منه أحَدٌ».
فالصائم يؤدي صيامه وعينه تنظر إلى هذه الأهداف، وقلبه يتعلق بها.
وإذا كان الصيام يربي صاحبه على أداء العمل بقصد الوصول إلى الهدف، وهو التقوى والمغفرة ودخول الجنة؛ فإن البناء الحضاري يقوم على نفس النظرية، وهي العمل بقصد الوصول إلى الهدف، ولهذا كان الصيام بأهدافه وغاياته ركناً فاعلاً من أركان البناء الحضاري.
ثالثاً: دور الصيام في غرس القيم الحضارية:
إن الناظر إلى فريضة الصيام يجد أنها تغرس في نفس مؤديها عدداً من القيم الحضارية النافعة، مثل:
1- المراقبة وبناء الضمير الحي؛ فالصائم يستطيع أن يختبئ عن أعين الناس ويتناول المفطرات، لكنه لا يفعل ذلك، لأنه يراقب الله تعالى.
2- الصبر؛ فالصائم يترك الشهوات، حتى يتربى على التحمل والصبر.
3- الشعور بالفقراء والمحتاجين؛ فالصائم يشعر بالجوع والعطش والحرمان من بعض ما كان يتمتع به في الإفطار، حتى يجد ما يجده الفقير والمحتاج من معاناة الحاجة والحرمان، فيعطيهم وينفق عليهم.
4- الانضباط؛ فالصائم ينضبط في مواعيد الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما ينضبط في صلواته وأذكاره وقراءته للقرآن الكريم، كما ينضبط في عاطفته وحركته، مما يشكل صورة من صور الانضباط الحضاري المتكامل.
5- البذل والعطاء؛ فالصائم ينفق من ماله ويجود بالعطاء، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس قال: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
6- جهاد النفس؛ فالنفس الإنسانية تحب الشهوات وترغب في فعل الملذات، لكن الصوم يمنعها من ذلك فترات طويلة، حتى تلين لصاحبها وتخضع له.
7- بناء الإرادة؛ فالصيام يغرس في نفس مؤديه الإرادة القوية التي تتغلب على العادات وتتحرر من أسر الشهوات.
8- تحقيق التوازن بين متطلبات الروح والجسد؛ فالصائم يغذي روحه بالطاعات المتنوعة بعد أن يغذي جسده ببعض الطعام والشراب في أوقات محددة، حتى يجمع بين الاحتياجات الجسدية المادية والغذاء الروحي الإيماني الذي ينهض بالإنسان ويرتقي به في معارج الكمال، فإذا انتهى الصائم إلى هذه القيم الحضارية وتفاعل معها وتعايش بها فإنها تسهم في بناء الحضارة النافعة.
_____________________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية، (28/ 19).