في رحلتنا مع القرآن الكريم في رمضان، ومع رجال القرآن الذين حملوه إلينا كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البشرية، وصلنا لمحطة سادس من أسلم من الصحابة وصاحب الهجرتين وشاهد «بدر»، و«أحد»، و«الخندق» وأول من جهر بالقرآن، وكنيته أبو عبدالرحمن، فقد روي علقمة عنه أنه قال: كنّاني النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبدالرحمن قبل أن يولد لي، وكان يعرف أيضًا بأمه فيقال له: ابن أمّ عَبْد، إنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود(1) معلم القرآن رضي الله عنه.
أولاً: إسلامه وجهره بالقرآن:
يحدثنا عبدالله بن مسعود عن قصة إسلامه قائلاً: كنت غلاماً يافعاً، أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، فقالا: يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا؟ فقلت: إني مؤتمن، ولست ساقيكما، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل؟»، قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح الضرع ودعا ربه فحفل الضرع، ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر، ثم شربت، ثم قال للضرع: «اقلص» فقلص، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول، فقال: «إنك غلام معلم»(2).
ويروي الزبير رضي الله عنه عن مشهد أول جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض فيقول: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني، فإن الله سيمنعني.
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، رافعاً بها صوته: «الرحمن، علم القرآن» ثم استقبلهم يقرؤها، فتأملوه قائلين: ماذا يقول ابن أم عبد، إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم عاد أصحابه مصاباً في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا ما خشيناه عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، قالوا: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهونه(3).
ثانياً: العالِم القرآني:
في المدينة بعد الهجرة، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقد قال عن نفسه: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلّا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لأتيته»، وأضاف قائلاً: «والله لقد أخذت مِنْ فِيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم»، فكان من فقهاء الأمة وعلمائهم، ووردت العديد من الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام التي تبيّن مكانته ومنزلته وفضله(4).
قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: «اقرأ عليَّ»، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأ عليه من أول سورة «النساء» حتى قول الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «كفى» (رواه البخاري).
قال عنه عبدالله بن عمرو: ذلك رجل لا أزال أحبه بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة: عبدالله بن مسعود -فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» (متفق عليه).
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له، وروى البخاري من حديث عبدالرحمن ابن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه؟ فقال: ما أعرف أحداً أقرب سمتاً وهدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد؛ ويقصد عبدالله بن مسعود.
ثالثاً: مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم:
كان ابن مسعود دقيق الجسم ضعيف البنية، لكنه كان يحمل قلباً ذكياً وروحاً تواقة وعقلاً للقرآن مستوعباً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه أن يقتدوا به فقال: «تمسكوا بعهد ابن أم عبد»؛ أي بوصيته.
وعن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون؟»، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد» (رواه أحمد).
وعن زهير بن معاوية عن منصور عن أبي إسحق عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت مؤمرًا أحدًا عن غير مشورة لأمَّرتُ عليهم ابن أُم عبد»؛ يعني ابن مسعود(5).
ويقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يسمع القرآن غضّاً كما أنزل، فليسمعه من ابن أُم عبد».
رابعاً: رواته وتلاميذه:
روى عنه: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وعبدالله بن الزبير، وجابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأبو رافع الأنصاري، وأبو أمامة الباهلي، وعلقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وقيس بن أبي حازم، وزر بن حبيش، والربيع بن خثيم، وطارق بن شهاب، وزيد بن وهب، وابنه أبو عبيدة، وابنه عبدالرحمن، وزوجته زينب بنت عبد الله الثقفية.. وغيرهم كثيرون.
_____________________
(1) عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
(2) رجال حول الرسول لخالد محمد خالد، ص 125.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق، بتصرف.
(5) سير أعلام النبلاء للذهبي.