حاولت الحركة الإسلامية عبر ثورة الإنقاذ أن تعيد بناء السودان وتنهض به من خلال رؤية شاملة تضمنت تحديث التعليم بمراحله المختلفة وبناء الجامعات والمدارس في جميع أنحاء البلاد، خاصة في المناطق المهمشة في أطراف السودان، إضافة إلى تدريب الكوادر البشرية خارج البلاد على الإدارة والعلوم والتقنيات الحديثة، وكل ذلك في إطار من المنظومة القيمية الإسلامية التي تراعي الضوابط الشرعية.
ومن خلال فتح آفاق لبناء الشخصية السودانية المستقلة، لجأت «الإنقاذ» إلى التعاون مع الصين في أكبر مشروع أفريقي لإنتاج النفط التي نجحت في إخراجه في العام 1998م، بينما كانت تتعرض لأكبر هجوم من تمرد أبناء الجنوب المدعومين إقليميًا ودوليًا فيما سمي حينها بهجوم الأمطار الغزيرة الذي قادته الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون كرنك، حيث هاجمت قواته السودان انطلاقًا من كينيا وأوغندا وإثيوبيا.
التحدي الأكبر
وهكذا كان التحدي الذي نجحت فيه ثورة الإنقاذ في إنتاج أول شحنات من براميل النفط في هذا العام الذي تلقت فيه أيضًا ضربة أمريكية كبرى على مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بحجة أنه مصنع للأسلحة الكيماوية، وكانت الضربة تعبيرًا عن حالة الانزعاج الكبرى لدى الولايات المتحدة من نجاح الفكرة والمشروع؛ حيث فشل هجوم التمرد ثلاثي الأبعاد، ونجح التعاون الصيني السوداني الذي مثل باكورة دخول الصين إلى أفريقيا، كما أنتج مصنع الشفاء كميات كبيرة من أدوية المضادات الحيوية التي تعاقدت عليها الأمم المتحدة لعلاج المرضى من أبناء القارة السمراء.
كان المشروع الحضاري الإسلامي السوداني بقيادة الثنائي حسن الترابي، وعمر البشير، يتحرك بخطوات واثقة نحو التقدم والنهوض، خاصة بعد تلك النجاحات التي كان أبرزها أيضًا بناء 40 جامعة جديدة في ولايات السودان المختلفة، لتضاف إلى 7 جامعات فقط كانت بالسودان منذ تأسيس جامعة الخرطوم عام 1902م.
ولأن المشروع الحضاري إسلامي اعتمد في أساسه على تحدي النفوذ الأمريكي الغربي في أفريقيا، خاصة أنه جاء بالشركات الصينية بديلة عن شركة شيفرون الأمريكية التي كانت تنقب عن النفط في البلاد، ونجحت في اكتشاف مناطقه وآباره، ولكنها مع مجيء ثورة الإنقاذ رفضت العمل بالحقول السودانية وانصرفت من البلاد ومعها كل الخرائط والأبحاث وامتياز الاستخراج بقصد تخريب الحقول، وتعطيل عملية الإنتاج.
خداع أمريكا
وتمكن الترابي الذي كان فاعلًا في ذلك الوقت من تدبير خدعة كبرى تمكن عبرها من استعادة جميع حقول النفط من شركة شيفرون الأمريكية، وذلك عندما أسس شركة باكستانية قامت بشراء حق الامتياز من شيفرون الأمريكية، ثم عادت وباعته للشركة الوطنية السودانية، التي قامت بدورها بالتعاقد مع الشركات الصينية التي نجحت في بناء خط أنابيب لنقل البترول من الجنوب إلى أقصى الشمال بطول 1610 كيلومترات إلى بناء بورسودان حيث التصدير للخارج.
وكان هذا الإنجاز أحد الأعمدة الأساسية لمحاولات المشروع الحضاري للنهوض بالبلاد، الذي كان أيضًا أحد الخطط الكبرى التي نجح فيما بعد ممثلو الاستعمار الحديث في القضاء عليه من خلال دعم ومساندة انفصال الجنوب الغني بالنفط، وهو ما حرم البلاد من كل تلك الثروات التي دفعت الكثير لأجل إنتاجها، وكان الانفصال بتخطيط وحماية أمريكية أوروبية إقليمية، حيث خدعت تلك الدول وخاصة أمريكا نظام الإنقاذ بوعود أن موافقتهم على حق تقرير المصير لأبناء الجنوب سيوفر للسودان على الفور رفع العقوبات الدولية عنها، وإلغاء الديون، واستثمار مليارات الدولارات في البلاد.
ولكن، وبعد توقيع اتفاق السلام في عام 2005م كان السودان يغرق في حرب أهلية أخرى تم إشعالها في غرب البلاد بإقليم دارفور، والذي انتهى بتقديم رؤوس النظام إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، وعمليات إبادة جامعية، وجرائم ضد الإنسانية، وكان أبرز المتهمين الرئيس السابق عمر حسن البشير، ووزير دفاعه محمد عبدالرحيم حسين، ووزير داخليته أحمد هارون، وعلي كشيب، أحد القادة المحليين في إقليم دارفور.
وبينما كان المشروع الحضاري يحاول أن يبني دولة مستقلة تتخذ من العلم والقيم الإسلامية أساسًا لبناء دولة النهضة والحداثة، كانت العقوبات الدولية التي تعددت لتصل إلى أكثر من 45 نوعاً من العقوبات تطارد وتجهد كل محاولات التقدم، حيث منع السودان من استيراد الأسلحة، وقطع غياراتها، وصيانتها، والطائرات العسكرية والمدنية، وصيانة المطارات وتحديثها، وجميع أنواع الأجهزة التقنية والطبية والأدوية، وحتى المصارف الدولية تم إخراج السودان من نظامها المالي في خطة وصفت بأنها الأكثر إحكاماً وحصاراً في التاريخ لتحويل البلاد إلى جثة هامدة، وكأنه عقاب وتنكيل علني بنظام خرج عن بيت الطاعة الأمريكي، وأراد أن يقول: «لا» في وجه الشيطان!
مرتكزات أساسية
وفي الخلاصة، ارتكز المشروع الحضاري في السودان على عدة مرتكزات داخلية وخارجية، منها التركيز على التعليم وتطويره، عبر إقامة الجامعات الإسلامية والحديثة، وفي هذا المجال عمد إلى إنشاء جامعتين يمكن وصفهما بأنهما ركيزته الحركية والهيكلية لإدارة البلاد، وهما جامعتا القرآن الكريم، وأفريقيا العالمية.
وفي إطار التحديث، وسع الدراسة فيهما لتشمل كليات للحاسب الآلي، والاقتصاد، والهندسة، والإعلام، والطب بمختلف تخصصاته، إضافة إلى دراسات العلوم الشرعية المتخصصة.
وكانت الركيزة الثانية إصدار تشريعات للضوابط الأخلاقية والدينية قامت على تنفيذها شرطة النظام العام، وكلل إنتاجه النظري للمشروع في إصدار الدستور الإسلامي في العام 1998م، الذي اعتمد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً ورئيساً للتشريع في البلاد بجانب الدستور والإجماع والاستفتاء والعرف.
وعلى المستوى الثقافي، حاول المشروع السوداني ترسيخ ثقافة الاستقلال، والاعتماد على الذات، ودحض واستبعاد ثقافة تلقي الإعانات والإغاثات الدولية، التي كانت تمثل 80% من ميزانية البلاد قبل وصول «الإنقاذ» للحكم في يونيو 1989م.
ونجح المشروع الحضاري في تغيير شكل الدولة من حيث إقامة المشروعات الخدمية، والعقارية، وشق الطرق ورصفها، وبناء مؤسسات الدولة التقنية والعلمية والتشريعية على الرغم من كل التحديات الداخلية والخارجية.
ويمكننا تلخيص أسباب سقوط المشروع الحضاري في تكالب الخارج الذي قام بالحصار والتجويع والاختراقات لجهاز الدولة، والملاحقة والتشويه، وتلك المجموعات بالداخل التي تعاونت مع الخارج لتضرر مصالحها، ورفضها للتوجهات الإسلامية، وانطلاقها من أفكار يسارية، وعلمانية تختلف وجودياً مع المشروع الحصاري الإسلامي، وتتلقى الدعم المالي والتقني والمعلوماتي طوال الوقت لضرب المشروع.
إضافة إلى أن التحاق عدد من الانتهازيين وضعاف النفوس بكوادر وشباب الحركة قد سمح بوجود ثغرات في جسم الحركة، الذين حاولوا الإثراء بلا سبب، واللحاق بركب الأغنياء، واستغلال وجودهم في هياكل الدولة والسلطة للحصول على الأموال الحرام، وكان هؤلاء من الأسباب الرئيسة لإسقاط المشروع من الداخل.