أظهرت نتائج انتخابات البلديات التركية خسارة واضحة لحزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبدلاً من أن يستعيد الحزب بلديتي إسطنبول وأنقرة من المعارضة العلمانية، خسر المزيد من البلديات، فيما يبدو تصويتاً عقابياً.
فاز حزبه بـ 24 بلدية فقط في انتخابات عام 2024م، بعد أن كان يحكم 39 بلدية في انتخابات عام 2019م، وخسر بلديات شهيرة بتصويتها له لأول مرة مثل بلدية ولاية مانيسا التي لم يخسرها حزب العدالة أبداً منذ تأسيسه، وبلدية بورصة التي لم يخسرها أبداً أيضاً، ومدينة بارتين، ومدينة دينزلي.
بالمقابل فازت المعارضة، ممثله في حزب أتاتورك (الشعب)، بـ 35 بلدية، وحصدت البلديات الثلاث الكبرى: إسطنبول وأنقره وأزمير، بعد أن كان رصيده 21 بلدية فقط في انتخابات عام 2019م.
أخطاء وعِبَر
حزب أردوغان (العدالة والتنمية) خسر انتخابات البلديات لسببين رئيسين:
الأول: موقفه المائع من حرب غزة والاكتفاء بالتهديد والوعيد، دون فعل مفيد لغزة أو ضد «إسرائيل»، وسعي للسير بوتيرة غير حاسمة في هذا الملف ربما حفاظاً على حجم المصالح المتضاربة دولياً لبلاده.
الثاني: ارتفاع معدل التضخم والغلاء الذي أغضب كثيراً من الأتراك ودفعهم للتصويت العقابي ضده برغم محاولات الرئيس زيادة الرواتب.
بطبيعة الحال لا يمكن نسب خسارة حزب أردوغان لأي إنجازات حقيقية للمعارضة، وإنما التصويت عقابياً ضده، فالمعارضة لم تحقق أي إنجازات، وخرجت لتوها خاسرة في انتخابات الرئاسة أمام أردوغان عام 2023م خسارة كبيرة.
لهذا يمكن الحديث عن أخطاء لحزب العدالة أثرت على خسارته، في مقدمتها داخلياً: التعثر في إدارة الملف الاقتصادي، وارتفاع نسبة التضخم، وتراجع سعر الليرة، وارتفاع الفائدة (50%) بعد أن كان أردوغان يعلن الحرب عليها قبل ذلك ويؤكد أنها يريدها صفراً!
أما خارجياً، فالأمر كله تقريباً مرتبط بضعف أداء الرئيس والحزب فيما يتعلق بالعدوان «الإسرائيلي» على غزة.
صحيح أن تركيا أرسلت العديد من المساعدات المكدسة في معبر رفح المصري منها 6 سفن مساعدات بخلاف الدعم السياسي والدبلوماسي ولقاءات مع قادة «حماس»، لكن كل هذا ليس كافياً بالنظر إلى حجم الجريمة الصهيونية في غزة.
ظهر هذا في عزوف نسب كبيرة من الناخبين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية عن المشاركة في الانتخابات (14%)، ومقاطعة حوالي 9 ملايين منهم، مقابل حشد المعارضة كل قواها للفوز في هذه الانتخابات بعد التراجع في انتخابات الرئاسة.
ولا يعني هذا أن المواطن التركي عاقب حزب أردوغان لموقفه المائع من حرب غزة، واختار المعارضة، فموقف المعارضة معادٍ أصلاً لغزة ولـ«حماس» وداعم لـ«إسرائيل»، ووصف هؤلاء عملية «طوفان الأقصى» بأنها عملية إرهابية! أي أن موقفهم أسوأ بمراحل ولا يقارن بموقف أردوغان، ولكن القصة مختلفة، ومقاطعة أنصار أردوغان بنسب كبيرة هي التي أسقطته في كثير من البلديات.
أما على صعيد التصويت ذاته، فقد ظهر أن الناخب الذي لم يختر حزب العدالة بسبب موقفه الضعيف من العدوان على غزة، منح صوته بالمقابل لحزب الرفاه الجديد برئاسة فاتح أربكان، نجل الزعيم التاريخي للتيار الإسلامي في تركيا نجم الدين أربكان؛ لذا كانت الانتخابات فرصة لظهور أحزاب إسلامية أخرى دعمت غزة بقوة مثل حزب الرفاه الجديد الذي فاز بنسبة 6.2% وفاز ببلديتين.
ولفهم الصورة بشكل أوضح، نشير إلى أن حزب الشعب الجمهوري المعارض (حزب أتاتورك العلماني) فاز في الانتخابات البلدية بـ37.7% من أصوات الناخبين، بعد أن كانت نتيجته في انتخابات عام 2019م هي 30.1%، وهي أول مرة يتقدم منذ انتخابات عام 1977م.
بينما فاز حزب العدالة والتنمية الحاكم بـ 35.5%؛ أي بفارق خسارة 2% فقط بين الحزبين، ولو تصورنا أن الناخبين صوتوا تقليدياً لحزب العدالة لكان فاز على الأقل بـ 41% من الأصوات ولم تذهب الـ 6% لحزب الرفاه الذي كانت نتائجه في انتخابات عام 2019م ثانوية وهامشية.
لكن النتيجة الكلية كانت انخفاض أصوات حزب العدالة والتنمية من 44.33% إلى 35.48%، واحتلال الحزب الحاكم المركز الثاني بعدما كان الأول، لأول مرة منذ ما يقرب من 22 عاماً.
هذا لا يعني أن نتيجة الانتخابات ستغير قواعد اللعبة السياسية، وتعطي المعارضة زخماً أو تفتح الباب أمام تغيير في المشهد السياسي، فهي مجرد رسالة أن الشعب التركي يفرق بين أردوغان (الذي انتخبه)، وأداء حزبه وقادته؛ ما قد يستدعي تغييرات كبيرة من أردوغان داخل الحزب.
تصحيح المسار
من هنا جاءت أهمية اعتراف أردوغان بالهزيمة، ولكن تأكيده أنه سيجري تصحيح المسار وبحث ما أغضب الناخبين من حزبه.
أخبر قادة العدالة والتنمية أن خسارة الأصوات لا يمكن اختزالها في مشكلة واحدة وموضوع واحد، وأن من واجبهم معالجة أي تقصير أو خطأ أو نوايا أو خيانات.
وخرجات اجتماع اللجنة التنفيذية لحزب العدالة والتنمية برئاسة الرئيس أردوغان، تؤكد ضرورة مناقشة قضايا الانتخابات بشكل مطول، بما في ذلك عملية اختيار المرشحين، وأنه سيتم اتخاذ جميع الخطوات اللازمة في هذا الصدد.
أردوغان قال: إنه يجب البحث عن العوامل التي أثارت غضب الأتراك في صناديق الاقتراع مثل ارتفاع تكاليف المعيشة وضغط التضخم، وشكاوى المتقاعدين، مؤكداً أنه ليس من تقاليدنا أبداً أن نبحث عن الأخطاء أو العيوب أو الأخطاء في الأمة، ولم نلجأ قط إلى مثل هذا المسار في حياتنا السياسية، ولن نفعل ذلك الآن.
وأضاف أردوغان: لا يمكن لأي من أصدقائي الجالسين حول هذه الطاولة، بمن فيهم أنا، أن يتهرب من مسؤولية نتائج انتخابات 31 مارس 2024م، سنحاسب أنفسنا قبل أن نأخذ غيرنا بعين الاعتبار.
وقال: حاولنا تخفيف هذا الضغط عن الشعب بدفعة واحدة قدرها 5 آلاف ليرة للمتقاعدين، وزيادة في الرواتب تصل إلى 50%، وخطوات أخرى، من دون الإخلال بانضباط الموازنة لكننا لم نكن ناجحين.
ووفق المعلومات التي أوردتها الصحفية في «خبر تورك» إسراء نهير، فقد عُلم أن الرئيس التركي تطرق إلى قضية قطاع غزة، ووضعها كأحد الأسباب التي أدت إلى انخفاض الأصوات، وقال لقيادات حزبه: للأسف، لم نستطع صد الهجمات السياسية وإقناع بعض الشرائح بخصوص قضايا فعلنا فيها ما بوسعنا ودفعنا ثمناً لذلك، مثل قضية غزة، مضيفاً: سنقوم بالتأكيد بإجراء تقييماتنا حول هذه الأمور، سواء كانت إيجابيات أو سلبيات.
هل صدَّرت أسلحة للاحتلال؟
كانت أكبر ضربة وجهت إلى الرئيس التركي وحزبه وظهر صداها في عزوف ناخبين عنه في الانتخابات البلدية واختار ممثلين لحزب الرفاه الإسلامي (حزب أربكان) بدلاً منه هي الأنباء التي تحدثت عن استمرار تركيا في تصدير سلاح لـ«إسرائيل»، وليس فقط الموقف التركي المائع من التصدي للعدوان على غزة، المكتفي بالشجب والتنديد.
ففي يوم 27 مارس 2024م، وقبل الانتخابات بـ 4 أيام، نشرت تقارير تزعم أن تركيا صدرت أسلحة إلى «إسرائيل»؛ ما أثار جدلاً دفع أنقرة للحديث عن تضليل حول هذه المعلومات.
صحف ومعارضون نشروا البيانات الرسمية الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية وقالوا: إنها تحدثت عن استمرار الصادرات إلى «إسرائيل»، بما يشمل الذخائر والبارود وقطع الأسلحة، منذ بداية يناير 2024م، وتحدثوا عن تورط أردوغان في دعم «إسرائيل».
وأظهرت قاعدة بيانات إحصاءات التجارة الخارجية أنه خلال نوفمبر وديسمبر 2023م؛ أي بعد حرب غزة بشهر، صدرت تركيا إلى «إسرائيل» ذخائر وأسلحة بقيمة مليونين و919 ألفاً و58 ليرة تركية (90 ألف دولار)، كما بلغت قيمة صادرات البارود والمواد المتفجرة مليوناً و940 ألفاً و36 ليرة تركية (60 ألف دولار).
ورغم التراجع في الصادرات من تركيا إلى «إسرائيل»، فإن حالة من الاستنكار والنقاش الحادين تصاعدت بين رواد منصات التواصل الاجتماعي، الذين دعوا إلى وقف فوري لهذه الصادرات رداً على المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال «الإسرائيلي» في غزة.
وجاء رد وزارة الدفاع التركية غير مقنع ولا ينفي البيانات الرسمية التي تم نشرها، لأنه تحدث بشكل عاطفي عن عدم قيام تركيا بأي أعمال تضر بالفلسطينيين، ووقف تركيا تقف على الدوام إلى جانب فلسطين.
وأكدت وزارة الدفاع أنها لا تشارك في أي فعالية مع «إسرائيل»، خاصة التدريبات والمناورات العسكرية والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية.
وزارة التجارة التركية كانت هي الوحيدة التي كشفت أن ما وصفتها بالمزاعم التي نشرتها مواقع أجنبية بشأن تجارة أسلحة مع «إسرائيل» غير صحيحة وتهدف إلى تضليل الرأي العام، ومع هذا جاء بيانها بعدما تم تناقل هذه الأنباء عمداً وأثرت على شعبية حزب أروغان.
الوزارة ذكرت، عبر حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي، أن بعض المواقع الإلكترونية الأجنبية قالت: إنه تم الكشف عن استمرار تصدير الذخائر والأسلحة من تركيا إلى «إسرائيل» حتى يناير 2024م، موضحة أن الأخبار المنشورة استخدمت عناوين بنود اللائحة الجمركية رقم (36) و(93) الخاصة بالمواد المتفجرة ومنتجات الألعاب النارية والمواد القابلة للاشتعال ومعدات الصيد وقطع الغيار والإكسسوارات على أنها صادرات سلاح؛ وذلك بهدف تضليل الرأي العام، وهذه الأخبار لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة!