تطوير علم القيادة يحتاج إلى قراءة جديدة لتاريخ الكثير من القادة في الإسلام برؤية حضارية؛ تسهم في تحديد المبادئ والقيم والأخلاقيات التي تضيء للأمة طريق المستقبل، وتفتح آفاقاً لبناء نظريات جديدة تشتد حاجة البشرية لها.
وتعتبر شخصية أبو أيوب الأنصاري الخزرجي من أهم النماذج التي يمكن أن تسهم في تشكيل نظرية جديدة.. حيث يقدم لنا درساً مهماً في شجاعة القلب والضمير والحكمة والأصالة والعمل لتحقيق أهداف عليا.
كان أبو أيوب رضي الله عنه من الذين شهدوا بيعة العقبة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمن برسالته، وأعد نفسه منذ اليوم الأول للجهاد في سبيل الله، فأكرمه الله سبحانه وتعالى باختياره ليستضيف رسول الله في بيته، حيث بركت ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام ذلك البيت المبارك، وكان حريصاً أن يلتمس البركة من الرسول صلى الله عليه وسلم فيأكل هو وزوجته من موضع أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم.
حكمة القائد في الأزمات
وتجلت حكمة أبي أيوب وصفاء نفسه وقلبه وشجاعة قلبه وضميره في أشد الأزمات التي واجهت الأمة الإسلامية، حين رفض حديث الإفك، ورفض اتهام المنافقين لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، فقال لزوجته: هل يمكن أن تفعلي ذلك؟ فأجابت بالنفي، فقال: والله إن عائشة خير منك، فقالت: وصفوان خير منك.
هذا يعني أن تحكيم القلب والضمير في أشد المواقف خطورة في حياة الإنسان يمكن أن يقوده إلى معرفة الحقيقة، وكان ذلك الدرس تحتاجه الأمة، وهذا يعني أن الأخلاق ترتبط بشجاعة الضمير؛ لذلك خلد القرآن هذا الموقف العظيم في سورة «النور»: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور: 12).
إن هذا ما يليق بالمؤمن؛ أن يرفض ما لا يقبله ضميره، ويرفض أن يظن بالمؤمنين السوء، فما بالك بأم المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنة أبي بكر الصديق؟! فلا يمكن أن يقبل عقل المؤمن اتهاماً ترفض زوجته أن تفعل مثله.
جمال القاعدة وعظمة الأخلاق
إنها قاعدة كانت الأمة تحتاجها لتبني على أساسها منظومة أخلاق كريمة في التعامل مع المؤمنين؛ فلا يظن المؤمن بأخيه إلا الخير والبراءة، ولا يجوز اتهام مؤمن بغير بينة واضحة، فالأصل في المؤمن العدل والصدق والخير والبراءة، وتلك قاعدة يجب أن يلتزم بها المؤمنون في سلوكهم حتى قيام الساعة، فهي تحفظ للأمة وحدتها وتماسكها وقوتها في مواجهة الخطوب والأحداث الجسام.
إنها القاعدة التي تميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم، وهي أساس العدل الذي كلف الله أمة الإسلام بأن تقيمه في الأرض، خاصة ما يتعلق بالعرض والشرف والكرامة.
كان أبو أيوب في ذلك الموقف يضيء الطريق للأمة؛ لتبني حضارتها على أساس الحقيقة الواضحة الساطعة، وكل مؤمن يجب أن يظن دائماً في إخوانه الخير والعدل.
يمكن أيضاً أن نتأمل في جمال الأسلوب القرآني، فالمؤمن يظن بنفسه خيراً حين يظن الخير في إخوانه المؤمنين لأنهم من نفسه، هكذا تعامل أبو أيوب الأنصاري وزوجته مع الموقف الصعب، والأزمة الخطيرة التي هددت وجود الأمة، إنه يظن بإخوانه الخير ويملأ نفسه اليقين ببراءة أم المؤمنين عائشة وطهارتها وشرفها وكرامتها.
لذلك كان أبو أيوب مثالاً للحكمة وشجاعة القلب والضمير، ويظل موقفه يلهم المؤمنين أهم قواعد العدل، ويوضح لهم كيف يميز المؤمن نفسه بخلقه والتزامه بالمبادئ.
درس في مؤهلات القيادة
موقف واحد في تاريخ الإنسان يمكن أن يكشف مؤهلات الشخصية وجدارتها بالقيادة؛ التي تظهر في الأزمات؛ عندما تحتاج الأمة للحكمة وشجاعة القلب والضمير والالتزام بالمبادئ والأخلاق.
كشف الموقف عن أصالة أبي أيوب الأنصاري التي تجلت في الالتزام بالمبادئ والرسالة، وتحكيم الضمير، والحكم على الناس بالعدل، ورفض الاتهامات الظالمة، والإشاعات الكاذبة، والأوهام والظنون.
ولكي يكون القائد عادلاً يجب أن يقتدي بأبي أيوب الأنصاري في سلوكه في هذا الموقف، فمن المؤكد أن هذا السلوك يوضح قوة الإيمان، وشجاعة الضمير.
الأصل في المؤمن الخير والبراءة
هذا المبدأ الذي أرساه أبو أيوب الأنصاري يحتاج أن يطبقه القائد في كل أحكامه، فيتعامل مع المؤمنين على أنهم عدول، ولا ينفي صفات العدل والبراءة والصدق عن مؤمن إلا دليل قاطع وبرهان ساطع وبينة واضحة.
ما أجمل ذلك الموقف في تلك الأزمة! وهو يقول لزوجته: عائشة خير منك، إنه شرف النفس وعلو الهمة فلا ينطلق الإنسان خلف ظنونه وأوهامه، فاليقين هو البراءة والخير والشرف في كل مؤمن، ولا يزول اليقين إلا بيقين مثله.
تلك هي القاعدة التي يجب أن يطبقها القائد المؤمن وهو يتعامل مع الناس، فلا يقبل اتهامات بدون دليل قاطع، ولا يحكم علي مؤمن بإشاعات وأوهام.
القائد الذي يحقق العدل
لو طبق القائد تلك القاعدة فسيحقق العدل، ويتحرى الصدق، ويكون جديراً بالقيادة، والظن بالمؤمنين خيراً هو أساس العدل، وهو الذي يمكن أن يوحد الأمة.
هذه القاعدة أساس القيادة الأصيلة الحكيمة التي تقوم على الأخلاق والمعرفة والعدل، ولا يستطيع تطبيق تلك القاعدة إلا من يمتلك شجاعة القلب والعقل والضمير والتمسك بالمبادئ وتطبيقها في الأزمات التي يمكن أن تهدد وجود الأمم.
لذلك كان أبو أيوب من أحب أصحاب رسول الله إلى نفسه، ولقد عاش عمره كريماً ومجاهداً، لم يثنه كبر سنه عن مواصلة جهاده؛ حتى إنه أصر على أن يدفن بجانب أسوار القسطنطينية؛ لأنه يؤمن بصحة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن ينال شرف أن يكون من الجيش الذي يفتحها.
ومرت مئات السنين حتى تمكن محمد الفاتح من فتح القسطنطينية، وبني على قبره مسجداً، وأرسى تقليداً هو أن يبدأ كل خليفة حكمه من مسجده، ويظل أبو أيوب يتمتع بحب واحترام المسلمين، وتظل سيرته تلهم كل قائد إسلامي الحكمة والإصرار على الجهاد حتى آخر لحظة في عمره، والإيمان بصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه اليقين الذي يحتاجه كل مسلم ليواصل الجهاد حتى تتحقق كل وعود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تحقق وعده بفتح القسطنطينية.