لعل واحدة من أبرز العوائق على صعيد التقاطع الحضاري بين الأمم، أنَّ منطق القوة المستكبرة لم يترك مجالاً لإعمال منطق العقل والحق والعدل، ففي صخب الصراعات التي تتصاعد وتيرتها بكل عنفوان وطيش، لا نلمس رغبة صادقة في الإنصات إلى صوت الحكمة في أجواء التفاهم المتكافئ، وما نسمعه حول مقولات التعايش المتسالم، وما نراه من سجالات ومداولات حول الحوار المتكافئ والجوار المتأسّس على الاحترام، ليس سوى مقولات فارغة وشعارات جوفاء!
القيم تتفرد بكونها أهم الممكنات الإسلامية على صعيد المجتمع والدولة
على الرغم من امتداد يد الخير المسالِمة الميّالة بفطرتها إلى التفاهم الحضاري، والتباحث حول الهموم الإنسانية المشتركة والقضايا والمشكلات المشتبكة، غير دافعة منذ قديم الزمان إلا بالتي هي أحسن؛ (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 28)، فإن التيار القابيلي، في كل زمان ومكان، فاشيٌّ بغلبة طبْعِهِ الشرِّير، فلا يؤمن بمبدأ المنافسة الشريفة، أو بقيم الحوار المتكافئ الذي يفضي إلى جوار حُر كريم، ولا يجيد سوى لغة العنف والمنطق الحَدِّي الذي لا يدع مجالاً للخير أن يتنفس بحرية ويعيش بأريحية.
وهكذا استحالت مشكلة ابني آدم من مجرد خلاف موقفي إلى وباء اجتماعي لم يلبث أن تفشَّى في شرايين العمران البشري، بتجلياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية، وأصبح تيار العنف يستند إلى آلة ضخمة تعمل بإيعاز من المذاهب والفلسفات والنُّظُم والمؤسسات والحكومات التي لم تنفك عن قطع كل طريق على أي فرصة سانحة أمام شعوب العالم كي تلتقط أنفاسها في سياق هذا التسابق المحموم نحو السيطرة والاستحواذ والتفرُّد بسيادة السلطة ومقاليد الثروة!
والحقيقة، أنّنا بتنا أمام تساؤلات محرجة تتعلق بمدى قدرة الفكر الإسلامي على إنتاج مقاربات تجديدية تتجاوز منعطف الاختباء خلف خطوط ما يُسَمَّى «الدفاع عن الإسلام» إلى إستراتيجية المكاشفة والمواجهة من خلال استثمار الوسائل التقنية وأدوات التواصل من أجل العمل على إيجاد أرضيات عمل جديدة للتعريف بالإسلام وحقائقه ووظائفه في هذا الوجود.
القيم متطلبات فطرية للتعايش ومن ضرورات الحياة الحضارية لأي أمة
مشروع حضاري واقعي
ولعل أحد تلك الأسئلة الأكثر إحراجاً، إنما تتعلق بمدى مصداقية حيازة الفكر الإسلامي تصورات عملية بشأن مشروع حضاري واقعي، ليس معنياً بهموم الواقع الإسلامي فحسب، بل بهموم الإنسان وقضاياه وشواغله وتساؤلاته الوجودية، وتنمية وجوده وتأمينه من أخطار الانحطاط القيمي والانتحار الأخلاقي، ومن الجفاف الروحي والشقاء النفسي، معنياً بتنمية الوجود البشري على مختلف أصعدة الحياة الإنسانية، دون أن يدفع الإنسان قيَمَه الروحية ومبادئه الأخلاقية ثمناً لتقدمه الموهوم ورفاهيته الزائفة؟
ونود في هذا السياق التوسل بالقيم مدخلاً إلى إنتاج واحدة من أهم المقاربات التي تتصل اتصالاً مباشراً بحياة البشرية في واقعنا المعاصر؛ ألا وهي مقاربة القيم؛ فالقيم هي مجموعة المبادئ وقواعد الأخلاق ومعايير السلوك الاجتماعي الرشيد، وهي ميزان استقامة السلوك الحضاري الإسلامي والإنساني، وضمانة استمراره في مستوى الأداء اللائق بخير أمة أخرجت للناس.
وتتفرد القيم بكونها أهم المنتجات التي تقع في دائرة الممكنات الإسلامية على صعيد كل من المجتمع والدولة؛ فعناصر إنتاج تلك القيم تكاد تكون إسلامية حصراً؛ سواء من حيث المواد الأولية، أم الخامات المتوفرة أم السلع الوسيطة، فضلاً عن توفُّر العنصر البشري القادر على إنتاج هذه السلعة.
وفي المقابل، نجد أنَّ السوق الإنسانية تعاني من ندرة نسبية، إنْ لم تكن مطلقة في هذه الصنعة أو السلعة، ولسنا بحاجة في هذا السياق المقتضب إلى تعديد معاناة البشرية والإنسان المعاصر نتيجة نقص هذه الصنف من السوق في بقاع متسعة من هذا العالم المترامي الأطراف؛ ما يُنذر بمزيد من الكوارث البشرية والجوائح المعنوية التي تصيب الإنسان في مقتل نتيجة ندرة القيم في السوق الإنسانية!
منظومة القيم الأخلاقية بالحضارة الإسلامية ثابتة وراسخة ولا تقبل التنازل أو التجزئة
إنَّ قيم الحق، والعدل، والمساوة، والإنصاف، والصدق، والإخلاص، والأمانة، والإيمان والعمل، والتقوى، والإتقان، والإحسان، والتسامح، والتعايش المتعاون، والتعددية المتآخية، والتنوع المتكافل، والعدل والوسطية، والرحمة والتراحم، والجود والكرم والعطاء، والشفافية والعفاف.. إلخ، سنجد هذه القيم جميعاً فضلاً عن كونها متطلبات فطرية للتعايش الكريم، فإنَّها من ضرورات الحياة الحضارية المدنية لأي أمة من الأمم، لكنَّ شهادة التاريخ تؤكد أن هذه القيم أصدق ما تجلَّتْ في مجتمعات الحضارة الإسلامية عبر العصور.
الثبات والرسوخ
ومنظومة القيم الأخلاقية في الحضارة الإسلامية تتسم بالثبات والرسوخ، فهي قيمٌ تتنافى مع النسبية، ولا تقبل المفاصلة أو المساومة أو التنازل أو التجزئة، فهي قيمٌ ثابتةٌ لا تتغير بتغيُّرِ المواقف والملابسات والظروف المختلفة؛ «أدِّ الأمانة لِمَنْ ائتمنك ولا تَخُنْ مَنْ خانك»(1).
وفي الفكر الإسلامي نجد أنَّ قوانين الأخلاق ونظامها، مثل قوانين الخليقة ونظام الكون وسننه ونواميسه التي لا تتغير ولا تتبدل؛ ذلك بأنها قيم مستوحاة من كتاب الله تعالى، ومن سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولقد دلَّلَتْ المعطيات التاريخية على أن القيم الأخلاقية في مسيرة الحضارة الإسلامية كانت تتسم بأنها قيم عامة مطلقة مُطَّرِدةٌ(2) في العبادات وفي المعاملات، في ضروب المعاشات الروحية والمادية، في السلوك الاجتماعي كما في النشاط الاقتصادي وفي ميادين العلوم والفنون والآداب، لا يتوقف تعاطيها بين المسلمين وبعضهم بعضاً فقط، بل إنها قيم عامة يتقاسمها المسلمون وغير المسلمين المجال الحضاري الإسلامي العام.
القيم الإسلامية تصون إرادة الخير من الضعف وتعزز وازع الفضل لدى الإنسان
وهكذا، كانت القيم الإسلامية هي الضمانة التي تصون إرادة الخير من الضعف أو التراجع، وهي التي تعزز من وازع البِرِّ والفضل لدى الإنسان، وتمنحه القدرة على التحكم في غرائزه، فتسمو نفسه بالخير، وتشرق روحه بنور السعادة الحقيقية في هذه الحياة، وقد ورد عن النبي، المؤسس لتلك الحضارة، قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانةٍ، وصِدْقُ حَدِيثٍ، وحُسْنُ خَلِيقةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ»(3).
ولا يفوتنا التنويه في هذا السياق، أنَّ مركزية الأسوة النبوية الحسنة (بشرية النبي) قد أسهمت في تسهيل توريث القيم الأخلاقية المصاحبة للنشاط الحضاري الإسلامي عبر مختلف العصور، جيلاً بعد جيل، وبذلك كانت للقيم الإسلامية إسهامات عظيمة في تحقيق التحضر والتمدن اللائق بحضارة خير أمة أخرجت للناس.
ومما يجدر التنويه به في هذا السياق، أن التعاليم الإلهية التي بُعِثَ الأنبياء بها؛ إنّما تهدف إلى تأسيس مجتمعات بشرية ساعية إلى غاياتها في الحياة بوازع من إيمانها القلبي، متوافقة مع مقتضى فطرتها التي خلقها الله عليها، وبدافع من ضميرها الحي الذي لا يموت!
وفي منظومة القيم الإسلامية، نجد أن ذمة المكلّف لا تبرأ بمجرّد قيامه بواجباته، أو أدائه الحقوق المتعينة عليه، أو التكاليف المنوطة به إلا على سبيل المقتضى الإيماني المنبعث من النية الحسنة والقربة من الله؛ لِما في ذلك من ضمانات الثبات على المبدأ واستدامة السير على المنهج، بغض النظر عن وجود قانون ملزم، أو تشريع يلوِّحُ بعقاب المقصِّر ومؤاخذة المتراخي من عدمه، بل بعيداً عن وقوع الإنسان رهينة احترام النظم والقوانين بمنطق جُبن المُكره أو التزام المضطر المجبور إجباراً يشوِّه إنسانيته، ويقلل من شأن ضميره، ويجرّده مقومات سمو إرادته، ويحرمه من انبساط مزاجه الحر واستقلالية اختياره وأريحية نفسه المطواعة المتحببة إلى كل خير وفضيلة.
ذمة المكلّف لا تبرأ بقيامه بواجباته إلا على مقتضى الإيمان المنبعث من النية الحسنة
إنَّ هذه المعاني وما يندرج في منوالها، وأقولها هنا بغير تعصُّب أو انحياز، لا تتوفر إلا في ظلال قيم الإسلام، الذي هو منهج الله وديانة الأنبياء وما صدق من أتباعهم، ونود التأكيد بكل ثقة بأنه لا يوجد إنسان عاقل رشيد ذو فطرة ومنطق سديد يأبى هذه المعاني أو يتلافاها فضلاً عن أن يتجاهلها أو يتجاوزها.
فما الذي يمنع، إذاً، من التفاهم الحضاري بين الشعوب والأمم والتلاقي عند هذه التقاطعات عند هذه النقاط المركزية المشتركة؟! وما الذي يعيق حركة البشر الرشيدة عن السير وفق هدايات هذه البوصلة التي لا تضل عن وجهة مصالحها، ولا تحيد عن غاياتها الدنيوية والأخروية مأمونة من الزلل والعثور أو الخلل والقصور؟!
__________________________
(1) أخرجه البيهقيُّ في السنن الصغرى، عن أبي هريرة (2323).
(2) أي: ثابتة ودائمة المترتبة على وتيرة رتيبة لا تتغير ولا تتبدل ولا تتخلف؛ (جار الله محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري (ت 538هـ/ 1143م): الفائق في غريب الحديث والأثر، تحقيق: علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، د2، د. ت، جـ4، ص40، أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي (ت 1094هـ/1682م): الكليات.. معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419هـ/ 1998م، ص521، أحمد مختار عمر بمساعدة فريق عمل: معجم الصواب اللغوي دليل المثقف العربي، عالم الكتب، القاهرة، 1429هـ/ 2008م، جـ1، ص121 و707).
(3) أخرجه البيهقي في الجامع لشعب الإيمان، عن عبدالله بن عمرو (4463).