لم ينطلق المشروع الإسلامي العام يوم انطلاقته الأولى من فراغ، ولم تكن انطلاقته ترفاً من القول، أو رفاهية من الفعل، ولكن ميلاده كان بالحق استجابة لحاجة ملحة، ودواء لمرض عضال، وتسكيناً لألم حادث.
فقد كان ميلاد الحركة الإسلامية استجابة لداعي الوحدة الإسلامية، يوم أن بدت معالم الفرقة تنهشها، وتلاشت آمالها في إعادة الخلافة الإسلامية المغدورة، وكان إطلاق المشروع الإسلامي يومئذ بمثابة الأمل لمن تشعبت بهم الطرق، وبمثابة الأكسجين لمن تعذر عليهم التنفس، وحبل الإنقاذ لمن وجد نفسه قد شارف الغرق، فكانت وحدة الأمة مَعْلَم المشروع الإسلامي الأبرز، ورايته الأرفع، وعنوانه الأوضح.
ثم كان ميلاد الحركة كذلك استجابة لحاجة الأمة إلى الشريعة الإسلامية خاصة، والمرجعية الإسلامية عامة، في كل شأن من شؤون الحياة، وكان التفاف شباب الأمة، والكثير من روادها حول المشروع الإسلامي لما وجدوه فيه من ضالتهم المنشودة، وآمالهم المعقودة في مرجعية إسلامية شاملة، ووحدة إسلامية جامعة.
السبيل للنهوض يتطلب صدقاً ومراجعة للنفس واستشرافاً للمستقبل وعزيمة وأخذاً بالأسباب
وانطلقت بالفعل الفكرة الإسلامية فتية متألقة، تنشد وحدة لأمتها، ومرجعية تحفظ بها هويتها، وتحمي بها ثوابتها، وتوثق بها رابطتها.
وقد قُسمت المنهجية التي تتحقق بها تلك الأهداف إلى مراحل تربوية وفكرية غاية في الدقة، تمثلت في إيجاد الفرد الصحيح المتأهل للاستخدام بمعايير إيمانية وفكرية ونفسية وأخلاقية ومهارية متنوعة.
ثم تدشين الأسرة على أرضية إسلامية عريقة في تأسيسها ومسار سيرها، ووسائل حمايتها، وسلامة إنتاجاتها وثمارها.
ثم انتقلت المنهجية إلى المرحلة الثالثة، والمتمثلة في إقامة المجتمع المسلم، المتحقق بمرجعية الإسلام في شؤون حياته كلها، صغيرها وكبيرها، أفراحها وأتراحها، أوقات ودها أو كدرها، في أسواقها ومصانعها ومتاجرها وشوارعها، كما في مساجدها ومدارسها ومراكز بحوثها.
ثم كان التطلع إلى الدولة الإسلامية التي تُعتبر نتاجاً طبيعياً لصحة اكتمال مرحلة المجتمع المسلم، حيث تعتبر الدولة نتاجاً طبيعياً لاختيارات المجتمع وتوافقه قدر المستطاع مع منهجية الإسلام.
انحراف نسبي
إلا أنه وبمرور الزمن، ودخول عوامل النحت الجغرافي والمناخي والإنساني، حدث انحراف نسبي عن تلك الأهداف المنشودة، فأضحت خافتة في وضوحها، متشابكة في وسائل تحقيقها، في الوقت الذي ضعف فيه إمدادها بالتجديد الفكري، والتطوير المعرفي، وعدم التوفيق في إعادة التموضع الصحيح عقب العواصف التي تعرضت لها، والقواصف التي اجتاحتها.
إعادة القيم الإسلامية لتكون عنواناً لأصحاب المشروع الإسلامي أبرز وسائل استمراره ونجاحه
وبعد مائة عام من الإطلاق، وجدت نفسها في مفترق طرق عجيب، وتشابك مسارات محيّر، ورياح عاتية لا تهدأ، وخسائر في الأرواح والأفكار والموارد والمساحات لا تحصى، فما السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة؟ وكيف نرى مستقبل المشروع الإسلامي؟ أو إن شئت بتعبير أدق فقل: كيف نرى مستقبل الحركة الإسلامية؟
والسبيل للنهوض ليس مستحيلاً، ولكنه في الوقت نفسه يتطلب صدقاً وإقبالاً، ومراجعة للنفس أمينة، واستشراف مستقبل علمياً، وعزيمة صادقة، وأخذاً بالأسباب المتاحة.
وأول ذلك أن تعيد الحركة الإسلامية تعريف نفسها من جديد، وفق معطيات الواقع، وآفاق المستقبل، واستفادتها من خبرات التجربة بحلوها ومرها.
وأن تدرك قبل كل شيء أنها حركة الألواح؛ أي أن قيمتها في الألواح التي تحملها، وأن ثروتها تكمن في الرسالة التي تشرفت بالانتساب إليها، ففي الألواح هدايتها، وبها نجاتها، والألواح هي المرجعية الربانية، الألواح هي مرجعية القرآن والسُّنّة وتطبيقاتها على أنفسنا قبل أن نسعى لتطبيقها على الناس، فمن لم يقبل المحاسبة لن ينجح في التمكين، ومن يتعالى على التقويم سيتحول حتماً إلى شيطان رجيم، والألواح هي حمل الرسالة وإقامة الدين، وهي التربية الإيمانية العميقة، هي الاستمساك بحبل الله، هي منبع الهداية ومصدر الرحمة والعزة، هي موطن الشفاء، الألواح تتمثل في العلماء الربانيين، والدعاة الصادقين، الألواح تتمثل في تعظيم المرجعية الشرعية؛ اعتقاداً، وفهماً، وسلوكاً، وحركة.
فالأزمة تفاقمت أصلاً يوم أن تبعثرت الألواح؛ (وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (الأعراف: 150)، وكان مفتاح الحل يكمن في استعادة مصدر الهداية والرفعة؛ (أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف: 154)، ومهما ملكت الحركة الإسلامية من إمكانات، ومهما شيدت من مؤسسات، ومهما حشدت من طاقات وأفراد، فإن معيار نجاحها يكمن في تبليغ الرسالة على الوجه الأكمل، وبدون ذلك فلا نجاح؛ (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (المائدة: 67).
إعادة اللحمة للأخوّة الإسلامية على أساس إيماني إطلاق متألق للحركة في البعث الجديد
إعادة تعريف الذات
وبهذا يعيد كل فرد منتسب إلى المشروع الإسلامي تعريف نفسه، بأنه حامل ألواح الهداية للبشرية، لإخراجها من الظلمات إلى النور، وليس للهيمنة عليها، أو استغلالها في تحقيق مصالح أو فوائد أو نجاحات، فشعاره الدائم: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) (الكهف: 95).
وحاجة الناس إلى الألواح تتمثل في حاجتهم لضبط مفاهيمها، وسلامة طرحها، والتفريق القاطع بين الثوابت والمتغيرات، وإن شئت فقل: إعادة طرح الثوابت والمتغيرات على نحو أنجع وأنسب وأمثل.
حاجة الناس إلى الألواح تتمثل في حاجتهم إلى القيم التي تحملها أكثر من حاجتهم لمجرد الأسماء والمسميات والأشكال، وما زال ميدان العمل فقيراً إلى القدوات الرائقة، والنماذج الصادقة.
ولقد ألقت الحركة الإسلامية الألواح منذ أن تحول العمل السياسي بكل ضجيجه من وسيلة للدعوة إلى غاية، وأضحت الدعوة وسيلة للعمل السياسي، بدليل أنه حينما تعارض الأمران تُركت الدعوة، ولما خسرت السياسة تراجعت الدعوة، والدعوة ليست مجرد أنشطة رتيبة، ولكنها ميراث النبوة وأمانة حمل الرسالة.
رغم النجاحات والإخفاقات فإن لدى الحركة الإسلامية فائضاً قيمياً للانطلاق به في بعث جديد
لذا، فإن إعادة القيم الإسلامية لتكون عنواناً حقيقياً لأصحاب المشروع الإسلامي ومحبيه لمن أبرز وسائل استمراره ومفاتيح نجاحه.
ثم إن تترس الحركة الإسلامية أمام ثوابت الإسلام، والانتصاب لحماية محكماته، لمن أبرز حيثيات الاستخدام، خاصة في تلك الظروف التي تداعت الأمم على ثوابت عقيدتنا، وتسلطت على مقدساتنا، وهويتنا وقيمنا.
ثم إن إعادة اللحمة للأخوّة الإسلامية على أساس إيماني راسخ، بصرف النظر عن الألقاب والألوان والأعلام والأجناس، يعتبر كذلك بمثابة إطلاق متألق للحركة في البعث الجديد.
ورغم كل ما مضى من نجاحات وإخفاقات، فإن لدى الحركة الإسلامية فائضاً قيمياً يمكن البناء عليه، والانطلاق به في بعث جديد، بل ربما لا أكون مبالغاً إن قلت: إن أي نهوض في الأمة في المرحلة الحالية لا يمكنه أن ينطلق إلا بالإفادة من المخزون القيمي والبشري الذي تركته الحركة في شتى الأرجاء والأقطار.
إن العودة إلى الأخوة الإسلامية في رابطتها الإيمانية الربانية، وحمل الألواح ببيعة جديدة مع الله تعالى، جنوداً لدعوته، وحملة لرسالة دينه، وورثة لراية نبيه، وإعادة التموضع حماية للثوابت، وحفظاً للعقيدة، وصناعة أجيال تتمثل الإسلام في سلوكها ومظهرها وخبرها، كفيل بأن يؤهل الحركة لقيادة البعث الجديد، وإنه لكائن يقيناً بإذن الله تعالى، وما علينا إلا أن نتأهب للاستعمال ليفتح لنا رينا سبحانه أبواب الاستخدام.