لا شك أن (الدعوة إلى تصحيح المفاهيم) عمل كبير الأهمية في هذه المرحلة من حياة أمتنا وحياة فكرنا الإسلامي وثقافتنا العربية، وهو يتطلب منا إلقاء نظرة واسعة على الأخطاء الكثيرة التي تواترت في العصر الحديث ومن خلال كثير من الأبحاث والمؤلفات والكتب الدراسية المقررة والمناهج التعليمية المختلفة والتي حاول النفوذ الأجنبي والاستعمار الفكري فرضها ودعمها وتعميقها وصقلها وإعطاءها صورة الحقائق الأساسية التي لا تقبل الشك بينما هي زائفة ليس لها أصل علمي تعتمد عليه أو سند تاريخي يضمن الثقة بها.
ويمكن أن نقسم هذه الأخطاء أساساً إلى عدة أصول عامة: أخطاء تاريخية أصبحت حقائق:
أولاً: حملات الاستعمار على أفريقيا وآسيا التي توصف في الكتب المدرسية بأنها طلائع الكشوف الجغرافية: حيث تقول هذه الكتب ما يأتي: «شهدت أوروبا في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر حركة اكتشافات جغرافية واسعة وقد وصل الأوروبيون إلى الهند بالدوران حول أفريقيا الجنوبية».
والواقع أن هذه ليست كشوفاً جغرافية، ولكنها فتوحات استعمارية كانت بعيدة عن روح العلم وعن أسلوب الكشف وكانت المراحل الأولى للاستعمار قد حملت في مضمونها أساساً مفهوماً خطيراً هو العمل على تطويق عالم الإسلام من الخلف.
فالبرتغاليون لم يكتشفوا الهند ولم يكتشفوا أفريقيا، أما الهند فكانت معروفة في أوروبا منذ العصور القديمة، ولم يكن هنري الملاح وفاسكودي جاما والبوكرك مكتشفين علماء بقدر ما كانوا غزاة طامحين إلى الفتح والسيطرة يحملون في أعماق أنفسهم روح الكراهية والتعصب ضد المسلمين.
فقد كانت تصرفاتهم وأعمالهم في مختلف البلاد الإسلامية والموانئ العربية التي نزلوا بها تدل على هذا الحد البالغ العنف، وأن هذه الحملات انطلقت من الأندلس: إسبانيا والبرتغال بعد تحررها من النفوذ الإسلامي والعربي كرد فعل لذلك ورغبة في الانتقام والغزو.
ولذلك، فإن من أخطاء كتبنا المدرسية والتاريخية المختلفة أنها تصوّر هنري الملاح عالماً ومكتشفاً أو تصور فاسكودي جاما على أنه رحالة مخلص للعلم، بينما كان الجدير بها أن تعرفه على حقيقته في رحلاته التي تحمل طابع العنف، ومن أمثلة ذلك ما فعل في رحلته الثانية إلى آسيا قبل وصوله إلى شواطئ الهند حيث اتّجه بمدافعه الثقيلة إلى المراكب الإسلامية التي تحمل الحجاج من مكة أحرقها وأغرقها بعد أن نقل أموال الحجاج وأمتعتهم إلى أسطوله وبعد أن حظر على رجاله إنقاذ الغرقى منهم وفيهم النساء والأطفال حتى هلكوا جميعاً.
وكل ما تورده الكتب العربية عن اكتشاف أوروبا لأفريقيا هو نوع من الخطأ المحض، فقد كان عبور المحيط الهندي من سواحل أفريقيا الشرقية إلى آسيا معروفاً من البحارة العرب والهنود منذ قرون.
وينطبق هذا على ما وصفت به رحلة صمويل بيكر إلى منابع النيل واهتدائه إلى بحيرة البرت وأنه وصل إلى بلاد بِكْر لم تطأها قدم إنسان، فقد سبق صمويل بيكر إلى هذه المناطق كثير من مؤرخي العرب ورحّالتهم، وقد وصفوا قبائل النيل قبيلة قبيلة وشرحوا عاداتها وأخلاقها وقارنوا بين تواريخها ولغاتها.
فالاستكشاف لم يكن في الحق إلا طلائع الاستعمار ولم يكن له طابع علمي وإنما كان قائماً على العنف والتعصب، ولم يكن في الحق ارتياداً لأرض بكر، بل كان مسبوقاً بكثير من الرحالة المسلمين والعرب.
ثانياً: ومن هذه الأخطاء القول: إن النهضة في العالم العربي إنما كان مصدرها حملة نابوليون وأن العرب والمسلمين لم يستيقظوا من نومهم حتى أيقظهم الغرب، وهو قول لا سند تاريخي ولا علمي له، فإن العالم الإسلامي والأمة العربية قد استيقظت قبل الحملة الفرنسية بأمدٍ طويل، هذه اليقظة التي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر أو حوالي عام 1750م على التحديد حينما انبعثت صيحة الإمام محمد بن عبد الوهاب في قلب الجزيرة العربية بدعوة التوحيد، وما كان لها من أصداء في العالم الإسلامي كله.
وهذا يسبق وصول الحملة الفرنسية بأكثر من نصف قرن ويسبق وصول الإرساليات التبشيرية بمئة عام على الأقل، وقبل وصول الحملة الفرنسية كانت حركة العلماء في الأزهر قد وضعت أول وثيقة لحقوق الإنسان حينما أخذت العهد المكتوب على الأمراء المماليك بأن لا يظلموا الرعية ولا يفرضوا عليها أي ضرائب أو قيود.
ثالثاً: ما يوصف بأنه «الاحتلال التركي»؛ وذلك ما يذهب إليه كثير من المؤرخين والباحثين حين يصفون الرابطة التي كانت قائمة بين العرب والأتراك داخل نطاق الدولة العثمانية على أنه احتلال تركي أو استعمار تركي بينما هو لم يكن كذلك في الحقيقة وأصدق ما يصوَّر به أنه اندماج بين العرب والعثمانيين في وحدة إسلامية شاملة بعد أن ضعُفت القوى العربية وقوي المماليك والسلاجقة واتسع الخطر الأوروبي مرة أخرى وحاول استئناف الحروب الصليبية مرة أخرى.
والمعروف أن العرب قبل قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية بعد أن ضعُفت قوى المماليك في مصر والبربر في المغرب وأصبحوا هدفاً لحملات صليبية جديدة، وقد وجدوا في العثمانيين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة، رفعت راية الإسلام عالية خفاقة وأعادت ذكرى الأبطال الأوائل في سبيل إعزاز الإسلام ونشره.
رابعاً: العصور الوسطى عبارة تتردد على الألسنة في محاولة تصوير العصر الإسلامي الزاهي بأنه هو من العصور الوسطى المظلمة، ومن الحق أن يقال: إن العصور الوسطى تاريخياً إنما هي الفترة الواقعة بين سقوط روما في القرن الرابع المسيحي وبين عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، هذه الفترة يطلق عليها الأوروبيون: فترة العصور الوسطى المظلمة، حيث سادت أوروبا مرحلة من أسوأ مراحل الضعف والتأخر، ولكن هذه الفترة بالذات ومنذ القرن السادس الميلادي في العالم الإسلامي هي فجر الإسلام، وامتدادها هو امتداد الحضارة الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين شرقاً وحدود فرنسا غرباً والتي قامت خلال هذه المرحلة الطويلة بدور ضخم في التنوير والعدل شمل هذه المنطقة الكبرى من العالم وبلغ أوروبا نفسها، هذه المرحلة كانت بالنسبة للمشرق والعالم الإسلامي مرحلة ضياء وقوة وحضارة، ولذلك فإن إطلاق كلمة العصور الوسطى إنما هو إطلاق ظالم، فالعصور الوسطى المظلمة إنما كانت كذلك بالنسبة للغرب وحده، ولكنها كانت مضيئة مشرقة بالنسبة للهند والفرس والعرب ومصر والمغرب كله والأندلس أيضاً.
خامساً: رجال الدين كلمة غربية مستوردة يُحاول الكُتّاب والمفكرون أن يطلقوها على العلماء المتخصصين في دراسات العقائد والفقه والشريعة والتفسير، والذين تكون دراستهم في الأغلب مستمدةً من المعاهد الإسلامية الخالصة: كالأزهر والزيتونة والقرويين وغيرهم، والواقع أن الإسلام لا يعرف طبقة معينة يمكن أن تسمى رجال الدين، لها نظام خاص أو حقوق معينة أو نفوذ من أي نوع، ولكنْ هناك علماء متخصصون في الدراسات الإسلامية والدينية.
_________________
المصدر: موقع «الألوكة».