التطويع العربي
يسعى الكيان الصهيوني في سياسته الخبيثة والخطيرة، الرامية لفرض نفسه في المنطقة العربية كجسم طبيعي، والقبول به أمراً واقعاً يجب الاعتراف به والتعامل معه وفق مسارين متوازيين، أولهما: استخدام التطبيع كإحدى إستراتيجياته لفرض وجوده وتثبيت نفسه على أرض فلسطين، من خلال كَيّ الوعي العربي والإسلامي، وإعادة صياغة العقل والفكر العربي من جديد، وتجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته، وثانيهما: الهيمنة على المنطقة العربية والسيطرة على مقدّرات الأمة وخيراتها وشعوبها، وسط قبول عربي وترحيب دولي.
فمن خلال التطبيع مع الدول العربية؛ شعوباً وحكومات، يهدف الكيان الصهيوني إلى جعل وجوده في فلسطين أمراً طبيعياً عادياً، لتأمين حدوده من جانب دول الجوار، عبر ربطها بمعاهدات واتفاقيات السلام من جهة، وتبادل الزيارات الاعتيادية، والرحلات، وإقامة المؤتمرات والندوات تحت مسميات مختلفة من جهة أخرى.
سياسة العصا والجزرة
الإدارة الأمريكية، التي تقود هذه الحملة لصالح دولة الكيان وفق سياسة العصا والجزرة، واستخدام الترغيب والترهيب للأنظمة العربية، أدركت عدم مقدرتها على تطبيق «صفقة القرن» وإنهاء القضية الفلسطينية وتقسيم الوطن العربي وتفتيته دفعة واحدة، وتمرير سياسة الفوضى الخلاقة ورسم خارطة جديدة للشرق الأوسط الجديد بقيادة دولة الكيان المستعمرة الأمريكية في المنطقة التي تملك السيطرة بقوتها العسكرية والأمنية، وعلاقاتها الجديدة مع الدول العربية، فلجأت إلى مسمى ناعم وخطة جديدة مغايرة لـ«صفقة القرن» ولكنها بند من بنودها يسهل تمريرها وهي التطبيع العربي الصهيوني.
مصطلح أمريكي جديد
تسعى الإدارة الأمريكية إلى إحداث اختراق في سياسات الحكومات العربية وعقول شعوبها وفكرهم وثقافتهم، في محاولة منها لتطويعهم وقبولهم بالتطبيع كونه مصلحة للسلام والأمن العربي، وتمرير مصطلح الدولة الصديقة، في إشارة إلى أن دولة الكيان ليست عدواً لهم، بل هي الحليف القوي والأمين على مصالحهم الأمنية والاقتصادية في المنطقة العربية، وهي المدافع الأول عنهم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في وجه الأخطار التي تواجههم، وبالتالي بناء إستراتيجية جديدة في منطقة الشرق الأوسط تكون فيها دولة الكيان القوة الوحيدة التي لا يمكن مجابهتها، التي تسعى لحماية المنطقة وتحقيق رخائها ومصالحها عبر التدخل المباشر في سياسات الدول، ومن ثم الانقضاض عليها لتحقيق حلمها الكبير في بناء دولتها الكبرى.
إن هذه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة القائمة على خداع الشعوب بواجهتها الديمقراطية والتكنولوجية المتطورة، التي تروج لحليفتها الصهيونية كضرورة في الصراع العربي ضد الأخطار الخارجية، لن تسهم في إحداث اختراق كبير لتبنيها، لأن الشعوب تدرك جيداً أن دولة الكيان لا يمكن أن تكون حليفاً، بل هي العدو الأول لهم، وأن دولتهم دولة احتلال وفصل عنصري قائمة على الاستعمار والاستيطان والقتل والتشريد والإحلال لتحقيق أطماعها في المنطقة العربية.
مكاسب بالجملة
إن دولة الكيان، ومن خلال اتفاقيات التطبيع وإستراتيجية الاختراق الصهيوني للأنظمة العربية، تطمح إلى تحقيق مكاسب أمنية، عسكرية واقتصادية ودبلوماسية مباشرة، وتقوية فكرة الدولة الحديدية في عقول كثير من أبناء المنطقة العربية، وخفض سقف التوقعات والمطالب العربية بما يتلاءم مع مخططات العدو للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين التاريخية بأقل عدد من السكان، والقبول أو غض الطرف عن السياسة الصهيونية الرامية لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه بالقتل والمجازر.
آليات المواجهة العربية
إن مواجهة هذه الإستراتيجية الصهيونية الأمريكية يكون ببناء إستراتيجية عربية تقوم على أساس المقاطعة في وجه التطبيع، وكشف الوجه القبيح للكيان الصهيوني القائم على الظلم التاريخي للحق الوجودي للشعب الفلسطيني على أرضه المحتلة، ومناهضة هذا الاحتلال وكل القوى الإمبريالية الظالمة المساندة له، وإقامة وإسناد مشروع المقاومة العربية والعالمية السلمية وغيرها في مواجهته وتصفيته، بدلاً من الوصول إلى اتفاقيات وتسويات وعلاقات مختلفة معه، والعمل ضمن مسارين لا انفصال بينهما يسيران معاً في خطين متوازيين، هما: المقاطعة بكل أشكالها، ومقاومة التطبيع، ضمن إطار موحد يرفض الفكرة أساساً، أو يربطها بمنح الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة على أساس أن الصراع مع اليهود قائم على أن دولتهم هي دولة احتلال لا غير.
الإستراتيجية العربية يجب أن تتضمن اختراق الفكر الصهيوني من خلال خطوات عملية لمقاومة التطبيع، وآليات يجب التركيز فيها بالدرجة الأولى على حركة الشعوب العربية باعتبار أنها الأكثر قدرة على التأثير، والأكثر رفضاً لسياسات التطبيع والاندماج من الأنظمة والحكومات التي تتهافت على التطبيع خوفاً على عروشها ومصالحها، وتكون مبنية أيضاً على اختراق السياسة الصهيونية وتعريتها وفضح جرائمها بحق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وتعرية من يروج لها، ومقاومة المشروع الإمبريالي وعولمة الاستسلام، ومقاومة الكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني، وتفعيل كافة أشكال النضال الجماهيري ضد التحالف الأمريكي الصهيوني وأدواته في بلادنا، من أجل تحقيق أهداف إستراتيجية الاختراق العربية، وتعزيز صمودها في وجه الإستراتيجية الصهيونية الأمريكية.
وعي ورفض شعبي
لا يمكن للتطبيع أن يمر ولا يمكن للعدو الصهيوني أن يحقق إستراتيجيته في الاختراق العربي طالما بقي التطبيع على مستوى الأنظمة والحكومات بعيداً عن الشعوب الواعية، التي تؤمن بعروبتها ومظلمة الشعب الفلسطيني، إدراكاً منها بأن الاحتلال مهما طال زمنه لا يمكن أن يكون صديقاً للعرب أو حليفاً لهم، وإنما يسعى من خلال ذلك إلى تمكين نفسه من السيطرة على مقدرات بلادهم، وتغيير أفكارهم وثقافتهم ومبادئهم، لذلك، ومن أجل نجاح إستراتيجية الصد العربي لمثل هذه المؤامرات الصهيوأمريكية، يجب التعويل على الشعوب أكثر من خلال تعزيز انتمائهم لعروبتهم وقضيتهم الأولى فلسطين، وربطهم بالفكر الإسلامي المستنير، وبالعقيدة الإسلامية التي تنص على معاداة اليهود وعدم موالاتهم مصداقاً لقول الله عز وجل: (لَتَجِدنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ) (المائدة: 82)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (المائدة: 51)، وأنهم أصحاب غدر ناقضو العهود لا ذمة لهم، كما قال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 100)، وأنهم أهل الفساد والإفساد في قوله تعالى: (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: 64)، وانتهاء بالعمل على تكثيف واستمرار جهودهم، ورفد دورهم الرامي لرفض التطبيع بكل أشكاله، ونصرة قضيتهم بشتى السبل والوسائل الممكنة والمتاحة.