حرصت السياسة الشرعية في الإسلام على بيان ما للراعي والرعية من الحقوق، وما عليهم من واجبات، حرصاً على الوفاء بها، والقيام بمصالح العباد، ومن حقوق الرعية على ولي الأمر ما يلي:
أولاً: حراسة الدين وسياسة الدنيا به:
وذلك من خلال إقامة الشعائر وتهيئة الأحوال لحسن أدائها، وتنفيذ ما أمر الله به في كل شؤون الحياة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41)، وقد أكد الفقهاء أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به(1).
ثانياً: إقامة الحق والعدل:
أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا الحق والعدل بين الناس، دون النظر إلى كون هؤلاء الناس من الأغنياء أو الفقراء، أو من الأصدقاء أو الأعداء، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).
وقد ضرب الخليفة الأول سيدنا أبو بكر الصديق المثل في إقامة الحق والعدل بين الرعية، حين أعلن في خطبته الأولى عن ذلك، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ»(2).
ويظهر دور الراعي في إقامة الحق والعدل من خلال سن القوانين، وتنفيذ الأحكام بين المتنازعين.
ثالثاً: رعاية مصالح الناس:
إن الراعي مسؤول عن رعيته، يحرص على النهوض بهم، وتوفير الحياة الكريمة لهم؛ لأن الله سائله عنهم، فقد أخرج البخاري، ومسلم، عن عبدالله بن عمر، أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ».
ولهذا كان الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لَوْ هَلَكَ حَمَلٌ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، ضَائِعًا، لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ»(3).
رابعاً: الدفاع عن البلاد:
يجب على الراعي أن يعد العدة لحماية المواطنين، والدفاع عن الدولة والدين، فيتخذ الوسائل اللازمة لذلك، مثل تجهيز الجيوش وتحصين الثغور، حيث قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
فإذا كانت القوة العسكرية هي المسؤولة عن تحقيق الأمن والأمان في البلاد؛ فإن الحاكم هو المسؤول عنها، ويجب عليه تطويرها وتفعيلها، وإذا كان الدفاع عن البلاد يحتاج إلى قوة أخرى غير العسكرية، كقوة العلم أو الصناعة أو التجارة أو غيرها؛ فإن الحاكم يجب عليه أن يقوم بها، ويهيئ الوسائل اللازمة لنجاحها، فإن هذا من واجبه، لتحقيق النهوض بالبلاد وأهلها.
خامساً: عدم خيانة الأمانة:
المسئولية أمانة، تحتاج إلى من يقوم بها، ويؤدي حق الله فيها، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قالَ: فَضَرَبَ بيَدِهِ علَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قالَ: «يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا».
فإذا تولى الحاكم المسؤولية ثم قصّر فيها، أو مال إلى أحد على حساب الآخر ظلماً وعدواناً؛ فإنه يكون خائناً لهذه الأمانة، لأنه غش رعيته، وفي صحيح البخاري، ومسلم، عن معقل بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ».
سادساً: رعاية حقوق الرعية بنفسه:
على الراعي أن يتفقد أحوال الناس، فينظر في شؤونهم، ويسأل عن مصالحهم، ويتابع قضاء حوائجهم بنفسه، أو يعهد بذلك إلى غيره من الأمناء الأكفاء، كما يجب عليه أن يفتح أبوابه للناس، من خلال الوسائل المتعددة، التي تمكنهم من إيصال مقترحاتهم أو رفع مظالمهم إليه، ففي الحديث الشريف، عن عمرو بن مرة الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من إمامٍ يُغْلِقُ بابَهُ دُونَ ذَوِي الحاجَةِ والخَلَّةِ والمَسْكَنَةِ، إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أبوابَ السَّماءِ دُونَ خَلَّتِه وحاجتِهِ ومَسْكَنَتِه»(4).
سابعاً: الرفق بالرعية:
حث الإسلام على الرفق بالرعية، حيث أخرج الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهُمَّ مَنْ ولِي من أمْرِ أُمَّتِي شيئًا فَشَقَّ عليهم فاشْقُقْ علَيهِ، ومَنْ ولِيَ من أمرِ أُمَّتِي شيئًا فَرَفَقَ بِهمْ فارْفُقْ بِهِ».
وفي صحيح مسلم عن الحسن البصري أنَّ عائِذَ بنَ عَمْرٍو -وكانَ مِن أصْحابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- دَخَلَ علَى عُبَيْدِ اللهِ بنِ زِيادٍ، فقالَ: أيْ بُنَيَّ، إنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «إنَّ شَرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ، فإيَّاكَ أنْ تَكُونَ منهمْ»، فقد وصل إلى الصحابي الجليل عائذ بن عمرو أن هذا الأمير كان ظالماً لرعيته، فذهب إليه ينصحه ويعظه، فتودد إليه قائلاً: يا بني، حتَّى يُمهِّدَ للنَّصيحةِ، ثم قال له: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: «إنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ» (جمعِ رَاعٍ، وهو الوَالِي) الحُطَمَةُ»؛ وهو مَن يَظلِمُ الرَّعِيَّةَ ولا يَرحَمُهم، فهو يَقْسو ويَشتَدُّ على رَعيَّتِه، مُبتعِدًا عن الرِّفقِ والحِكمةِ فيهم، ثُمَّ قال عائِذٌ لِعُبَيْدِ الله: «فإيَّاكَ أن تكونَ منهم»؛ أي: أُحذِّرُكَ أنْ تكونَ مِن هؤلاء الحُطَمةِ.
ثامناً: إعلان السياسة التي يتبعها:
لا يُخفِي عن الناس منهجه ونظامه، بل يعلنه لهم، ويطالبهم بما يريد منهم، كما يبين لهم حقوقهم التي يلتزم بها تجاههم، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل في ذلك، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمهم شأنُ المخزوميَّةِ التي سرقت، فقالوا: من يُكلِّمُ فيها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلَّم، قالوا: ومن يجترئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم، فكلَّمَه أسامةُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: «أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللهِ»، ثم قام فخطب، فقال: «إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وايمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها».
وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، لما ولي الخلافة، قام خطيباً في الناس، يعلن سياسته التي يحكم بها، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ»(5).
تاسعاً: ضبط الأمور المالية:
السياسة المالية هي التي تعبر عن موارد الدولة ومصارفها، وهي أمانة يجب أن تؤدَّى لأهلها، حيث قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، فعلى الراعي أن ينظم الأمور المالية تنظيماً دقيقاً، بحيث يعطي كل ذي حق حقه، وعلى الرعية كذلك أن يؤدوا ما عليهم من أموال تجاه الدولة، فيتعاون الجميع في ذلك، حيث قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم أنظار الرعية إلى أداء واجبهم في ذلك، ففي صحيح البخاري، ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، وفي صحيح البخاري، ومسلم عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ أثَرَةٌ، وأُمُورٌ تُنْكِرُونَها»، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، فَما تَأْمُرُنا؟ قالَ: «تُؤَدُّونَ الحَقَّ الذي علَيْكُم، وتَسْأَلُونَ اللَّهَ الذي لَكُمْ»، وعلى الراعي أن يكون أميناً في توزيع المال، دقيقاً في مراقبة عماله ومتابعتهم؛ لأن الله يسأله عن ذلك، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمِرت».
عاشراً: حسن اختيار الحكومة:
اختيار الحكومة أمانة في عنق الحاكم، فلا بد أن يختار المعين الصالح له، فإن وجده؛ فإن هذا من الخير الذي أكرمه الله به، ففي صحيح ابن حبان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أرادَ اللَّهُ بالأميرِ خيرًا جعلَ لهُ وزيرَ صدقٍ إن نسيَ ذكَّرَهُ وإن ذكرَ أعانَهُ، وإذا أرادَ بهِ غيرَ ذلكَ جعلَ لهُ وزيرَ سَوءٍ إن نسيَ لم يذكِّرهُ وإن ذكَّرهُ لم يُعنهُ»، وفي «حلية الأولياء»، عن عمرو بن مهاجر، قال: قال عمر بن عبدالعزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل: يا عمر ما تصنع؟(6)، فالسبب في حسن اختيار الحكومة الإعانة على الولاية، وحسن القيام بحقوق الرعية.
_____________________
(1) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، الماوردي، ص 5.
(2) البداية والنهاية، ابن كثير (8/ 89).
(3) مصنف ابن أبي شيبة، بسند حسن (37205).
(4) أخرجه أبو داود (2948)، والترمذي (1332)، وأحمد (18033).
(5) البداية والنهاية، ابن كثير (8/ 89).
(6) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الأصبهاني، (5/ 292).