مع الانفجار المعلوماتي وشيوع تأثير وسائل الاتصال الاجتماعي، تشير الدراسات الحديثة إلى تراجع عالمي كبير في معدلات القراءة، ما بدا أثره واضحاً على منصات «السوشيال ميديا»، التي تعج بكثير من المعلومات والآراء لكنها تحوي القليل من العلم والمعرفة.
وفق دراسة أجراها المعهد الوطني الفرنسي للكتاب، العام الماضي (2023)، فإن الوقت المخصّص للقراءة قد تقلص عالمياً، إذ أصبح لا يتعدى 3 ساعات أسبوعياً مقابل اتساع المساحة المخصصة لوسائل التواصل الاجتماعي والإصدارات الإلكترونية، التي أصبحت تفوق 3 ساعات ونصف ساعة يومياً.
ولطالما كان تأثير التقنية على عادة القراءة مثيراً للجدل، إذ زعم بعض المدافعين عن انتشار وسائل التقنية بين أبناء جيل الألفية (Gen Z)، حتى الأطفال منهم، بأن ذلك من شأنه نشر الثقافة فيما بينهم، لكن نتائج الدراسات المتواترة لا تصب في هذا الاتجاه.
وتظهر تلك الدراسات تأثيرًا متباينًا للتكنولوجيا على عادة القراءة في مختلف أنحاء العالم، وبعضها يشير إلى أن التقنية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، أدت إلى انخفاض في معدلات القراءة التقليدية مثل قراءة الكتب والصحف.
تضرر الفهم
في عام 2019م، أجرت مجموعة من الباحثين في جامعة جورجيا، بقيادة ماريا كاريس، دراسة تحليلية حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على القراءة العميقة، أظهرت أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مفرط «قد يقلل من القدرة على الانغماس في القراءة العميقة ويؤثر سلبًا على التركيز والفهم العميق».
وفي الإطار ذاته، أجرى باحثون في جامعة ستانفورد دراسة حول تأثير الهواتف الذكية على عادة القراءة، ونشروا نتائجهم في مجلة «العلوم السلوكية والتكنولوجية» في يونيو 2020م، وجاء فيها أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية يمكن أن يؤدي إلى انخفاض في مدة القراءة وزيادة في التشتت وقلة التركيز.
وبحسب دراسة المعهد الوطني الفرنسي للكتاب، فإن 47% من الفرنسيين يقولون: إنهم عاجزون عن القراءة بطريقة متواصلة تفوق 10 دقائق، وإنهم غالباً ما يفعلون ذلك وهم يتنقلون بين قنوات التلفاز أو بين صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضهم يقرأ وهو يجيب عن الرسائل النصّية على الهواتف النقالة أو وهو يسمع الموسيقى.
لكن من المهم التنويه أن هناك دراسات أخرى تشير إلى إمكانية الاستفادة من التقنية في تعزيز عادة القراءة، مثل توفير الوصول السهل إلى المصادر الرقمية وتشجيع القراءة عبر تطبيقات الكتب الإلكترونية ومنصات النشر الرقمية.
فوائد مهدرة
الحكمة تقتضي الإشارة إلى حجم الخسائر التي يتكبدها العقل جراء غياب القراءة العميقة، وفوائدها الكثيرة، أهمها «تطوير التفكير الخطّي، والسرد المبني على منطق التتابع، وتطوير ذاكرة الحدث، وتعزيز الانتباه والتركيز وتطوير الحّس النقدي للفرد»، ولذا أطلقت النقابة الوطنية الفرنسية للنشر تحذيراً في يناير 2023م بشأن ما آل إليه وضع القراءة العميقة في العالم بوجه عام وفي فرنسا بوجه خاص.
بحسب الفيلسوفة والمؤرخة الفرنسية منى أزوف، فإن ما يمنع أغلب شباب العالم حالياً عن القراءة هو صعوبة الحصول على الهدوء والانعزال، وهو ما شرحته مفصلاً في كتابها «في نصرة قضية الكتب».
وأوردت أزوف، في كتابها، ما نصه: «حين نبدأ في القراءة ننقطع عن العالم الخارجي، بيد أن الإنسان المعاصر أصبح لا يحب الشعور بأنه معزول عن محيطه».
وكان الكاتب الأمريكي نيكولاس كار أول المثقفين الذين دقوا ناقوس الخطر بشأن تأثير التقنية على القراءة حول العالم في كتابه «ماذا فعل الإنترنت بعقولنا؟»، مشيراً إلى أنه هو نفسه أصبح يجد صعوبة في قراءة الكتب، نتيجة تشتت تركيزه بعد صفحة أو صفحتين.
إنه تأثير أشبه بالمخدرات لاعتياد وسائل التقنية في حياتنا، وهو ما عبر عنه كار بقوله: «أشعر بالقلق وأبحث عن شيء آخر أفعله، أشعر أنني أقضي وقتي في إعادة عقلي المتأخر إلى النّص، لقد أصبحت القراءة العميقة التي كانت تأتي بشكل طبيعي صراعاً يومياً».
الأكثر خطورة في مثل هذا الإدمان هو أنه يصيب الأطفال الأصغر سناً، وهو ما أثبتته دراسة أجرتها الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (AAP)، عبر التخطيط المقطعي لدماغ الأطفال في مرحلة ما قبل رياض الأطفال لدراسة تأثر أدمغتهم مع استخدام الوسائط المستندة إلى الشاشة.
ووجدت هذه الدراسة ارتباطًا بين زيادة استخدام الوسائط التقنية وانخفاض سلامة البنية المجهرية لمسارات المادة البيضاء في الدماغ، وهي المسارات المسؤولة عن دعم تعلم اللغة ومهارات القراءة والكتابة الناشئة لدى الأطفال.
وإزاء ذلك، فإن الإنسان بات أمام حقيقة أنه يقوم بإهدار وربما إعدام قدرته على العلم والمعرفة مستقبلاً، وإن بدا في شكل حديث ومتطور، وهو ما عبرت عنه أستاذة الأدب في جامعة ديوك كاترين هايلس، قائلة، في كتابها «القراءة والتفكير في الأوساط الرقمية»، ما نصه: «رغم كل محاولاتي لم أنجح في جعل طلابي يقرؤون ولو حتى رواية قصيرة، حين أطلب منهم تقديم بحث عن كاتب ما أجدهم وقد استعانوا بـ«جوجل» للاطلاع على مقاطع من مؤلفاته؛ لأنهم ببساطة عاجزون عن قراءة كتاب من أوله إلى آخره».