في سياق الجرائم المتعددة للاحتلال الصهيوني، الذي لا يكف عن ارتكابها بحق فلسطين؛ شعبًا وأرضًا ومقدسات، تأتي جريمته المتكررة باقتحامات المسجد الأقصى لتستفز ملايين المسلمين في كل مكان وليس في فلسطين وحدها، ولتنبِّه إلى جوهر هذا الصراع، الذي هو صراع يخص الأمة بأسرها.
فاقتحامات «الأقصى» ليست مجرد جريمة بحق المسجد المبارك، وإنما جريمة يريد بها الاحتلال تحقيق أكثر من هدف، كما سيأتي بيانه، وجريمة تمثل عنوانًا على القضية برمتها، وعلى الصراع مع الاحتلال الصهيوني في أعمق ما يمثله هذا الاحتلال.
جريمة متكررة
في تقرير له مطلع العام الجاري، منشور على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، أشار «مرصد الأزهر» إلى أن اقتحامات «الأقصى» جريمة لم تتوقف منذ احتلال شرقي القدس عام 1967م، وأن عام 2023م سجَّل ثاني أكثر الأعوام انتهاكًا للمسجد الأقصى، باقتحام 50098 مستوطناً لباحاته؛ بينما كان عام 2022م هو أكثر الأعوام انتهاكًا، حيث سجل 51483 مقتحماً.
استغلال المناسبات
وإذا كانت جريمة اقتحامات «الأقصى» ممتدة طوال العام، فإن الصهاينة يكثفون منها في المناسبات؛ سواء التي تخص المسلمين مثل شهر رمضان المبارك، أو التي تخصهم والتي لا نعترف بها ولا بوجودهم في القدس من الأساس.
ففي أول أيام ما يُسمى بـ«عيد الفصح» (23 أبريل 2024م)، اقتحم مستوطنون، يقودهم عضو الكنيست «الإسرائيلي» السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك، باحات المسجد الأقصى، من جهة باب المغاربة، ونقلت «وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية» (وفا) عن مصادر محلية فلسطينية قولها: «إن عشرات من المستعمرين بحماية مشددة من شرطة الاحتلال «الإسرائيلي»، اقتحموا المسجد الأقصى من باب المغاربة، في أول أيام عيد الفصح اليهودي».
وكانت جهات يمينية ومؤسسات استيطانية متطرفة تطلق على نفسها «جماعات الهيكل»، دعت إلى تكثيف اقتحامات واسعة للمسجد الأقصى المبارك، في «عيد الفصح اليهودي»، الذي يمتد إلى 7 أيام؛ ونشرت في صفحاتها عبر مواقع التواصل دعوات لتقديم «قرابين الفصح» في المسجد الأقصى مقابل منحة مالية.
وقالت دائرة الأوقاف الإسلامية: إن الاحتلال ضيّق على المصلين بالمسجد القبلي، بعد أن اقتحمت أعداد من المستوطنين والمتطرفين اليهود المسجد الأقصى منذ ساعات الصباح، وذكرت «الدائرة» أن إجمالي عدد المستوطنين الذين اقتحموا باحات «الأقصى» ارتفع في اليوم الأول لـ«الفصح»، إلى 292 مستوطنًا.
الاقتحامات تشعل انتفاضة
لقد كانت «الانتفاضة الثانية» شاهدة على مكانة «الأقصى» في قلوب الفلسطينيين؛ فمبجرد أن دنَّس أرئيل شارون، رئيس وزراء الكيان حينئذ، وبرفقة حراسة مشددة، باحات المسجد الأقصى، في 28 سبتمبر 2000م، تجمهر جموع المصلين وحاولوا التصدي لذلك، واندلعت شرارة الانتفاضة الثانية التي سُميت «انتفاضة الأقصى».
وكان مشهد اغتيال الطفل محمد الدرة وهو يحتمي بأبيه، أبرز شواهد هذه الانتفاضة على القتل الهمجي من المحتل الغاشم.
الاقتحامات تشعل حربًا
أيضًا، كانت اقتحامات «الأقصى» من قِبَل الصهاينة، مع ما يصاحب هذه الاقتحامات من اعتداءات على المصلين والمرابطين بـ«الأقصى»، كانت سببًا في إشعال حرب بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والاحتلال الصهيوني، فيما عُرف بمعركة «سيف القدس»، وذلك في عام 2021م.
فبعد اعتداءات متكررة، حذرت حركة «حماس»، على لسان قائد جناحها العسكري محمد الضيف، بأنَّ أمام الجيش «الإسرائيلي» ساعة للخروج من المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جراح، وإلَّا ستندلع الحرب.
ومع انتهاء المهلة في تمام الساعة السادسة مساءً، في 10 مايو 2021م، بدأت المقاومة الفلسطينيّة بإطلاق الصواريخ على شكل رشقات صاروخية مكثفة على الكيان، وبعدها بدأت «إسرائيل» بقصف قطاع غزة، وهو ما تسبب ببدء الحرب، التي استشهد فيها أكثر من 200 فلسطيني، وأكثر من 13 «إسرائيليًا»، ثم انتهت الحرب في 21 مايو 2021م.
الاقتحامات تشعل «طوفان الأقصى»
بالإضافة لذلك، كانت اقتحامات «الأقصى» أحد الأسباب الكبرى وراء عملية «طوفان الأقصى» التي انطلقت فجر السبت 7 كتوبر 2023م، لا سيما بعدما نقلت الأنباء عن استيراد 5 بقرات حمراء من الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتنفيذ المخطط الصهيوني بهدم «الأقصى».
وقد جاء هذا الارتباط بين هذين الأمرين واضحًا في كلمة محمد الضيف، القائد العام لـ«القسام»، التي تم بثها صباح يوم عملية «طوفان الأقصى»، موضحًا فيها الأسباب والإنجاز والمأمول من الأمة في تقديم الدعم والإسناد على طريق تحرير «الأقصى».
وفي كلمته المصورة بمناسبة مرور 100 يوم على بدء العدوان على غزة، جدد أبو عبيدة، الناطق باسم «كتائب القسام»، التذكير بهذا الأمر، فقال: «نذكّر العاجزين من قوى العالم الذي تحكمه شريعة الغاب، أن العدوان بلغ أقصى مداه على «أقصانا»، وبدأ تقسيمه الزماني والمكاني، وأحضرت البقرات الحمر تطبيقًا لخرافة دينية مقيتة، مصممة للعدوان على مشاعر أمة كاملة في قلب عروبتها ومسرى نبيها ومعراجه إلى السماء».
أهداف متعددة
لا شك أن الاحتلال الصهيوني له عدة أهداف من وراء الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى المبارك، التي استمرت على مدار سنوات، وبلغت ذروتها قبيل انطلاق عملية «طوفان الأقصى»، التي جاءت استباقًا لمؤامرات الاحتلال في هدم «الأقصى»، بعد أن فرض سلطة الأمر الواقع، وسمح بتزايد أعداد الصهاينة المقتحمين، مع التضييق على الفلسطينيين، ومن هذه الأهداف:
– اختبار إرادة الأمة: فـ«الأقصى» رمز قضية فلسطين، وجوهر الصراع مع الاحتلال الصهيوني الغاشم الذي يسعى إلى إضفاء الطابع الديني على ممارساته، وإلى خلق الأكاذيب والروايات المزعومة عن ذلك، ويأتي اقتحام الاحتلال ليختبر إرادة الأمة في ارتباطها بمسجدها المبارك، وليكشف مدى متابعتها للقضية المركزية أو الغفلة عنها.
– تعويد الأمة على مشاهد الاقتحام: فتكرار الاقتحام على مدار العام، وسنة بعد أخرى، يهدف الاحتلال من ورائه إلى تعويد مشاعر المسلمين على ذلك؛ حتى يصير الاقتحام خبرًا معتادًا ضمن نشرات الأخبار، وليس حدثًا شاذًا يلفت الأنظار ويؤجج المشاعر؛ وبذلك يتمكن الاحتلال من إنفاذ مخططاته في ذبح البقرات وهدم المسجد في لحظة غفلة من الأمة!
– فرض مخططات السيطرة والتقسيم والهدم: فتكرار الاقتحامات يخلق وضعًا بسلطة الأمر الواقع، ويصبح أمرًا طبيعيًّا، وصولاً إلى التقسيم الزماني والمكاني، كما فعل الاحتلال مع الحرم الإبراهيمي.
ولهذا رأى «مرصد الأزهر»، في تقريره المفصل عن هذه الاقتحامات، أن الاحتلال يقوم بمساعٍ حثيثة لفرض سيطرته على ساحات المسجد الأقصى المبارك، من خلال السماح للمزيد من المستوطنين باقتحامه وحمايتهم، وأن هذه الانتهاكات التي يتعرض لها «الأقصى» من قبل «جماعات الهيكل»، تبين أن الاحتلال يسير بخطة ثابتة ومدروسة بغرض فرض أوضاع جديدة داخل «الأقصى» وتزييف الحقائق بالفعل، عبر إدخال الأدوات الدينية التوراتية ونفخ البوق وتقديم القرابين النباتية والصلاة الجماعية داخل باحاته؛ وذلك للوصول إلى هدفهم المنشود بتقسيم «الأقصى» زمانيًّا ومكانيًّا، وبناء «هيكلهم» المزعوم.
وهكذا تأتي جريمة الاحتلال باقتحاماته المتكررة لباحات المسجد الأقصى المبارك، شاهدة على ما يضمره هذا الاحتلال من كيد وتربص بقضية المسلمين ومقدساتهم، ترقبًا للحظة المناسبة لكي يمضي في مخططاته إلى أبعد مدى؛ بزعم أطماع استيطانية لا حدود لها، ورؤى دينية لا أساس لها!