تنوعت شهادات غير المسلمين للحضارة الإسلامية بقدرتها على التسامح الديني والتعايش السلمي مع الآخرين، ومن ذلك ما صرّح به غوستاف لوبون حين قال: إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم(1).
وقال المؤرخ الشهير ولز عن تعاليم الإسلام: إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أي جماعة أخرى سبقتها، وإن الإسلام مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة(2).
والناظر في هذه الشهادات وغيرها من شهادات المنصفين حول الحضارة الإسلامية، يجد أنها تؤكد التسامح الديني لهذه الحضارة العظيمة، فقد أنشأ الإسلام حضارة لا تضيق ذرعاً بمخالفيها، ولا تتعصب ضدهم، بل تعاملهم بالحسنى في أجمل صورها ومظاهرها، فقد قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53)، وقال عز وجل: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46).
وقد حرص العلماء على جمع المبادئ الإسلامية التي أسهمت في بناء التسامح الديني لهذه الحضارة العظيمة، ومن ذلك ما ذكره د، مصطفى السباعي في كتابه «من روائع حضارتنا»، حيث أكد فيه أن مبادئ التسامح الديني في الإسلام، هي:
1- أن الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد، حيث قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13).
2- أن الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعاً، فقد قال الله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136).
3- أن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لا بد فيها من الإقناع والرضا، فقد قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، وقال عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، وقال سبحانه وتعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
4- أن أماكن العبادة للديانات الإلهية محترمة، يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين، وفي هذا يقول تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
5- أن الناس لا ينبغي أن يؤدي اختلافهم في أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، أو يتعدى بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر، حيث قال عز وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، أما الفصل بينهم فيما يختلفون فيه فلله وحده هو الذي يحكم بينهم يوم القيامة، حيث قال عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة: 113).
6- أن التفاضل بين الناس في الحياة وعند الله بمقدار ما يقدم أحدهم لنفسه وللناس من خير وبر، فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخلقُ عيالُ اللَّهِ، وأحبُّ الخلقِ إليْهِ أنفعُهم لعيالِهِ»(3).
7- أن الاختلاف في الأديان لا يحول دون البر والصلة والضيافة، فقد قال الله تعال: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (المائدة: 5).
8- إن اختلف الناس في أديانهم فلهم أن يجادل بعضهم بعضاً فيها بالحسنى، وفي حدود الأدب والحجة والإقناع، حيث قال الله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46)، ولا تجوز البذاءة مع المخالفين، ولا سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين، حيث قال عز وجل: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108).
9- إذا اعتُدي على الأمة في عقيدتها، وجب رد العدوان لحماية العقيدة ودرء الفتنة، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 193)، وقال عز وجل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة).
10- إذا انتصرت الأمة على من اعتدى عليها في الدين، أو أراد سلبها حريتها، فلا يجوز الانتقام منهم بإجبارهم على ترك دينهم، أو اضطهادهم في عقائدهم، وحسبهم أن يعترفوا بسلطان الدولة ويقيموا على الإخلاص لها حتى يكون «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».
هذه هي مبادئ التسامح الديني في الإسلام، الذي قامت عليه حضارتنا، وهي توجب على المسلم أن يؤمن بأنبياء الله ورسله جميعاً، وأن يَذكُرَهم بالإجلال والاحترام، وألا يتعرض لأتباعهم بسوء، وأن يكون معهم حسن المعاملة، رقيق الجانب، لين القول، يحسن جوارهم، ويقبل ضيافتهم، ويصاهرهم حتى تختلط الأسرة، وتمتزج الدماء.
وأوجب الإسلام على الدولة أن تحمي أماكن عبادتهم، وألا تتدخل في عقائدهم، ولا تجور عليهم في حكم، وتسويهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات العامة، وأن تصون كرامتهم وحياتهم ومستقبلهم، كما تصون كرامة المسلمين وحياتهم ومستقبلهم.
وعلى هذه الأسس قامت حضارتنا، وبها رأت الدنيا لأول مرة ديناً ينشئ حضارة فلا يتعصب على غيره من الأديان، ولا يطرد غير المؤمنين به من مجال العمل الاجتماعي والمنزلة الاجتماعية، وظل هذا التسامح شرعة الحضارة الإسلامية منذ وضع أساسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أخذت في الانهيار، فضاعت المبادئ، ونسيت الأوامر، وجهل الناس دينهم، فابتعَدوا عن هذا التسامح الديني الكريم.
__________________________
(1) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ص720.
(2) معالم تاريخ الإنسانية، ولز (3/ 103).
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2528).