سؤال «النهضة» قد يبدو كبيراً وصعباً، خاصة إذا ما اقترن النقاش حوله بالبحث عن مقومات نهضة الأمم والشعوب، والدول والمجتمعات.
وقد يصعب على المرء، مع استعادة تجارب الماضي، وإخفاقات الحاضر، تلمس سُلم النهضة، أو ربما التعثر أمام عوائق النهوض.
لكن الهدف الأكبر، الذي يراد تحقيقه، ينطلق من جزئيات صغيرة، أو عبر خطوات محسوبة ومتراكمة، تنتهي بتحقيق أهداف صغيرة، تصب في المجمل، في توفير إجابة مُثلى لسؤال النهضة.
بالتأكيد، سيظل الإنسان ركيزة أي مشروع نهضوي، ونواة رئيسة في بناء النهضة، مهما تغيرت الأزمة والأمكنة، فهو اللبنة الأولى في جدار التنمية المستدامة والنهضة المنشودة.
كيف تصنع نهضتك؟ ليس مجرد سؤال للطرح، بل رسالة مفادها أن النهضة صناعة بيد الإنسان، يستطيع امتلاك أدواتها، وتحقيق معانيها ومرادها في نفسه أولاً، وأسرته ثانياً، ووطنه ثالثاً.
ويثير التساؤل المطروح إشكالية ذات مغزى، تتعلق بمدى أهمية وربما وجوب تجاوز المراهنة على السلطة في صناعة النهضة، وتوفير معطياتها، والحذر من التكاسل والتراخي، في انتظار نهضة قد لا تأتي بعد عقود.
ليبدأ المرء بنفسه أولاً، محققاً النهضة في ذاته، بامتلاك عوامل القوة الإيمانية والنفسية والبدنية والعلمية، فلا يركن أو يخنع أو ييأس، بل يثابر ويتعلم ويتطور، ويتقن صنيعه، فتتحقق له النهضة الصغرى.
من يشغله سؤال النهضة، عليه أن يجيب عنه في نفسه، ماذا فعل، ماذا تعلم، ماذا أنتج، ماذا قدم لنفسه ووطنه وأمته ودينه، أين منجزه الحقيقي في حياته؟
إن الكثير من الناس يعيشون على وجه الأرض، أعواماً وعقوداً، ما تركوا بصمة قط، وما خلفوا أثراً جميلاً، أو غرسوا غرساً، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» (أخرجه البخاري).
هذا الشخص تجده قنوطاً، متململاً، شكَّاياً، لا يريد التخلص من عثراته، ولا يريد الاستشفاء من آلامه، ولا يريد تجاوز معاناته، ثم يلح في السؤال: أين ومتى النهضة؟!
يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، مبدياً تعجبه من حال المسلمين، وركونهم إلى التخلف والتراجع في ذل الأمم: «الحمد لله أني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين»!
إن النهضة ستتحقق بالتأكيد حينما يستعيد كل شخص نفسه، ويستنهض عزيمته، ويستنفر قواه، ويستيقظ قلبه وعقله وإيمانه، فيحقق قول الله عز وجل: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ» (حديث صحيح).
سلوك حياتي
يمكن للإنسان المشغول بالإجابة عن سؤال النهضة أن يحول وجهته صوب سلوكه اليومي والحياتي، ما إذا كان مواطناً إيجابياً أم لا، كيف يقهر السلبية؟ هل ينحاز للقانون والحق؟ هل ينتصر للعزة والكرامة؟ هل يتصدى للباطل والفساد؟ أين القيم التي يحييها واقعاً لا شعاراً؟ لماذا لا يكون جزءاً من حلم النهضة؟
يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: «إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل ولكن يفكر ليتكلم»، ويقول أيضاً: «إنها لشرعة السماء.. غيّر نفسك تغير التاريخ».
إن أداء الواجبات المنوطة بك، كمسلم وإنسان، من عبادة الله، ونهل العلم، وإتقان العمل، وإنتاج التقدم، واحترام القانون، ونفع الناس، وبث الخير، وغرس الفضيلة، لهو سلوك تتمثل فيه روح النهضة ومشروعها الحضاري، فالنهضة سلوكيات وأفعال، لا شعارات وأقوال.
حينما تكون النهضة سلوكاً يومياً، وواقعاً في حياة كل شخص، النتاج وقتها سيكون أسرة ناجحة ناهضة، تقدر قيمة الوقت والعلم والعمل، أسرة ليست أسيرة البطالة والتفكك والفوضى، أو الترف والشهوات، بل محضن تربوي صالح وفاعل يشيد أساسات المشروع النهضوي.
وقتئذ، يكون لدى المجتمع إنسان ناهض، وأسرة ناهضة، لتتشكل النواة الأولى والصلبة التي تشد قواعد النهضة والحضارة والازدهار، عملاً بقوله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
كيف تصنع نهضتك؟ هو تساؤل موجه لكل إنسان، وكل أسرة، وكل راع، وكل زارع، وصانع، وتاجر، وطالب علم، وغيره، قبل أن يوجه لكل ذي سلطة، أو نظام حاكم.
بالطبع ليس هذا من قبيل إعفاء الحكام والمسؤولين من مسؤولياتهم تجاه مشروع النهضة في أمة وصفها المولى سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران، 110).
إن المسؤولية مشتركة، والإجابة عن سؤال النهضة ليست بمقدور شخص واحد، أو هيئة واحدة، بل إن على الأمة بأسرها أن تجاهد ليل نهار، لامتلاك مشروع تنموي شامل، ونهضة مستدامة؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وتكنولوجياً وحقوقياً وإعلامياً ورياضياً وفنياً، حتى تصبح مجتمعاتنا بحق «خير أمة».