تعد مرحلة «أرذل العمْر» أقسى وأشد المراحل العمْرية التي يمكن أن يمر بها الإنسان على امتداد حياته، والدلالة اللغوية لكلمة «رذيل» تدل على ذلك، فمعناها في اللغة: الرديء من كل شيء، وإضافة أرذل إلى العمر من قبيل إضافة الصفة للموصوف على سبيل المجاز العقلي؛ لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في هذا العمر، لا العمر ذاته.
وعلى هذا فإن «أرذل العمر» تعني: أردأ أحوال الإنسان في هذه المرحلة العمرية من ناحية الضعف البدني، والعقلي، وشدة العوز للآخرين لقضاء الاحتياجات العامة والخاصة، في وقت يَعَزُّ عليه فيه أن يجد من يرعاه، أو يعطي له اهتماماً، أو يلقى له بالاً، لأن أولاده -في الغالب- إما قد ماتوا، ومن بقي منهم حياً، فهو-أيضاً- قد بلغ به الكبر مبلغه، وأصبح هو الآخر في حاجة ماسة إلى من يرعاه ويقوم على شأنه، وغالباً ما يكون الأحفاد قد شغلتهم حياتهم، وألهتهم مسؤولياتهم إلا من رحم ربي.
ويؤثِر علماء الصحة النفسية التسمية القرآنية «أرذل العمر» لهذه المرحلة من حياة الإنسان على أي تسمية أخرى، كالهرم مثلاً؛ لأنها هي التي تعبر بدقة عن حال الإنسان في تلك المرحلة، فيقولون: «في ميدان سيكولوجية المسنين مجموعة من المحكَّات يحددون بها بلوغ طور «الهِرَم»، وهو ما نؤثر أن نطلق عليه التسمية القرآنية «أرذل العمر»، وهي تسمية معجزة تستوعب بإيجاز خصائص هذا الطور الذي يتسم بأن أهم علاماته تعاسة المسن، وإزعاجه للآخرين، وضِيق هؤلاء به، وهذا ما يجعله منفراً»(1).
ولم يوجد أي دين سماوي أو معتقَد بشري أوْلى هذه المرحلة العمرية اهتماماً وعناية كما أولاها الدين الإسلامي، فهو يُعَدُّ الدين الوحيد الذي تحدث عن هذه المرحلة، ووصف حال الإنسان عندما يصل إليها وصفا دقيقا، كما بين ما يجب على الإنسان أن يفعله من أجلها قبل أن يصل إليها كي ينجو من شدة هولها، وعظيم بؤسها، وقد جاء ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء في حديث القرآن عنها، قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل: 70).
وقد قال القرطبي في تفسيره لتلك الآية: «ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، يعني: أردأه وأوضعه، وقيل: الذي ينقص قوته وعقله، ويُصيِّره إلى الخرف ونحوه. وقال ابن عباس: يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له، والمعنى متقارب، (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِير)؛ أي: يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قَبْل من الأمور لفرط الكبر»(2).
وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه وتعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) (الحج: 5).
ومن النكات الإعجازية في الآيتين ما نجده من فوارق بين بعض ألفاظهما سواء في الرسم، أو الحذف والذكر، مما يؤدي إلى اختلاف في المعاني والدلالات التي لها علاقة بهذه المرحلة العمرية.
ففي آية النحل جاءت «كي لا» مفصولة عن بعضها، في حين أنها جاءت في الحج متصلة «كيلا»، فالفصل في سورة «النحل» جاء ليوضح أن الزمن الذي بين العلم، وعدم العلم؛ أي: الدخول في حالة الخرف لم يحدث فجأة إنما أخذ وقتاً، بمعنى أن الشخص أخذ ينسى شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى الحالة التي لم يعد يعلم فيها شيئاً مما كان يعلمه سلفاً، فطول الزمن عند نطقها مفصولة دل على طول الزمن الذي استغرقه الشخص في نسيان ما يعلمه حتى وصل إلى الحالة التي لم يعد يعلم بعدها شيئاً.
أما في «كيلا» موصولة في سورة «الحج»، فسرعة النطق بها وهي موصولة دلت على سرعة التحول من حالة العلم إلى حالة عدم العلم؛ أي: الخرف.
ثم جاءت معها «من» في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) لتدل على ابتداء الغاية، والتأكيد، والتعقيب، وفي كل هذا دليل على السرعة في الانتقال من حالة العلم إلى حالة عدم العلم.
أما حذف «من» من سورة «النحل»، فإنه يؤكد ما دلت عليه «كي لا» المفصولة من جهة طول المدة التي تسبق مرحلة أرذل العمر، فدل هذا الحذف على طول مدة علمه، وأنه بعد هذا العلم الكثير الذي دام معه سنوات طويلة -ستين أو سبعين أو ثمانين سنة- وفي أثنائها بدأ ينسى شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى حالة أصبح بعدها لا يعلم شيئاً.
وهذه هي حال الناس عندما يصلون إلى هذا الحال في تلك المرحلة العمرية، فمنهم من يستغرق وقتا حتى يصل إلى حالة عدم العلم التام، ومنهم ينتقل إلى هذه الحال في أسرع وقت، فقد يصبح سليما ويمسي مخرِّفا، والعكس صحيح، يحدث ذلك معه دون مقدمات، ولا سابق إنذار.
ومن النكات الإعجازية التي وقف عليها ابن عاشور في هاتين الآيتين؛ ذكر الله للوفاة قبل الرَّدِّ إلى أرذل العمر، فذكر: أن الوصول إلى هذه السن، وبلوغ الناس تلك الحالة (أي: حالة أرذل العمر) قليل، لذلك قدم الوفاة عليها لأن أغلب الناس يُتوَفَّوْن قبل أن يصلوا إلى هذه المرحلة، وقليل من يصل إليها وهذا من لطف الله(3).
ومن الآيات القرآنية التي تحدثت عن تلك المرحلة العمرية ولكن بأسلوب غير مباشر، قوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (يس: 68).
والانتكاس في اللغة: العودة للخلف، وهو بالنسبة للإنسان عودة لمرحلة الطفولة، فيحتاج إلى من يطعمه، ويسقيه، ويلبسه، ويحمله، ويزيل عنه الأذى، ثم يقول ربنا معاتبا ولائما هؤلاء الذين لا يتهيؤون لهذه الحالة التي يمكن أن تقع بهم: أين عقولكم حينما تكونون في هذه الحالة، والإجابة المنطقية: أنهم بلا شك سيكونون بلا عقول بعد ما أصابهم الخرف.
ومن هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين)؛ قال الطبري: أي: يرد إلى أرذل العمر، وهي نزلت في نفر رُدُّوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسئل-صلى الله عليه وسلم- عن عبادتهم بعدما سُفِّهت عقولهم، وفقدوا ذاكرتهم، فأنزل الله عذرهم في قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين: 6)؛ أي أن لهم أجرهم الذي عملوه قبل أن تذهب عقولهم(4).
ومن هذه الآيات التي تحدثت بطريق غير مباشر عن تلك المرحلة، قوله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (الإسراء: 23)؛ ففي قوله: «أُفٍّ» تصوير واف لحال الإنسان حينما يصل إلى مرحلة الكبر، فالإنسان لا يقول: «أف» إلا حين يشتم رائحة منفرة تتضايق منها النفس وتتأذى، والابن لن يقولها لوالديه أو أحدهما إلا إذا اشتم منهما رائحة كريهة تتأفف منها نفسه، وهي لن تكون إلا عند خروج الأذى منهما على نفسهما بدون وعي ولا إدراك منهما، مما يتطلب معه أن يقوم بإزالته عنهما وتنظيفهما، فحينئذ ينهاه ربه -وهو يقوم بذلك- من أن يقول لهما مجرد كلمة «أف».
أما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جاءت تتحدث عن هذه المرحلة العمرية، وما يجب علينا تجاهها، فمنها: ما حدثنا به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- حيث قال: كانَ النبيُّ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، كما تُعَلَّمُ الكِتَابَةُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بكَ مِنَ الجُبْنِ، وأَعُوذُ بكَ مِن أنْ نُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وعَذَابِ القَبْرِ» (رواه البخاري).
وواضح من الحديث مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الاستعاذة بالله من هذه الأشياء التي ذكرها، ومنها أن يُرَد إلى أرذل العمر.
واستعاذةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من مرحلة أرذل العمر راجع لما فيها مِن الخَرَفِ، واختلالِ العَقلِ والحَوَاسِّ، والضَّبطِ، والفَهمِ، وتَنكيس الهيئة، والعَجزِ عن أداء الطَّاعاتِ، كما أنه كان يخشى أن يعجز عن أداء واجبات الرسالة، أو يحتاج إلى غيره في حوائجه الشخصية، مما يهز مكانته في النفوس كرسول لله تعالى.
وفي حديث آخر يستعيذ فيه صلى الله عليه وسلم من الهِرَم، وهو بمعنى «أرذل العمر»، فقد قال أنس بن مالك: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل».
وقد يكون بلوغ الإنسان مرحلة أرذل العمر ابتلاء يبتليه الله به ليكفر عنه ذنوبه ومعاصيه حتى يلقى الله بصفحة بيضاء خالية من الذنوب والآثام، وقد تكون انتقاما ينتقم الله به من الظالمين، فقد جاء في البخاري؛ أن أسامة بن قتادة، وكان من أهل الكوفة وقت إمارة سعد بن وقاص عليها من قِبَل عمر بن الخطاب، قد اتهم سيدنا سعداً بأنه لا يسير بالسرية، (أي: لا يجاهد في سبيل الله)، ولا يقسم بالسوية (في الغنائم والزكاة)، ولا يعدل في القضية، فقال سعد: وأنا والله لأدعُوَنَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرِّضه للفتن، واستجاب الله لسعد في كل ما دعا به، فكان الرجل إذا سئل بعد ذلك يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد! قال عبدالملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن! ومما استجاب الله به لسعد طول عمر الرجل حتى بلغ أرذله، وانتكس جسده، حتى سقط حاجباه على عينيه من شدة الكِبَر، كما خرَّف إلى درجة أنه كان يتعرض للجواري (أي: يتحرش بالفتيات الصغيرات)، وهو في هذه السن الكبيرة، فكان إذا سئل عن ذلك ممن يزدرون فعله، كان يعترف بظلمه لسيدنا سعد قائلاً: «شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد!».
وهناك من الوسائل التي تجعل الإنسان عمره يطول إلى أقصى مدى، ولا يرد إلى أرذل العمر، فيبقى عقله سليماً، وجسده صحيحاً.
ومن هذه الوسائل:
– أن يحفظ نفسه من أن تقع في وهدة الذنوب، وأن تنغمس في ارتكاب المعاصي والآثام، فمن حفظ الله حفظه الله في جسده، وعقله، قال صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبدالله بن عباس: «يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ..» (رواه الترمذي).
ومن النماذج الدالة على حفظ الله لمن حفظه في نفسه، ما روي من أن أبا الطيب الطبري رحمه الله توفي عن مائة وسنتين ولم يختل عقله، ولم يتغير فهمه، بل كان يفتي مع الفقهاء، حتى إنه ركب يوما سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب؟ فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
– التزام الصدق في القول والفعل، فمن التزم بذلك لم يرُدُّه الله إلى أرذل العمر، قال مالك بن أنس: قلَّ ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا مُتِّع بعقله، ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف.
– كثرة الاشتغال بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وتدبراً، مما يحفظ على الإنسان عقله وجسده فلا يرد إلى أرذل العمر، قال ابن عباس: من قرأ القرآن يعني حفظه، لم يرد إلى أرذل العمر.
وقال محمد بن كعب: من قرأ القرآن مُتِّع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة، وقال عبدالملك بن عمير: إن أبقى الناس عقولاً هم قراء القرآن.
والعالم المشتغل بالعلم، المهموم برسالته، والحريص على تبليغها، لا يُرَد إلى أرذل العمر، مهما طال عمره، فقد جاء رجل من أهل الشام إلى طاووس فاستأذن عليه، فخرج له شيخ كبير ظنه الرجل طاووسا، قال: أنت طاووس؟ قال: أنا ابنه، قال: إن كنت ابنه فقد خَرَف أبوك، فرد عليه قائلاً: يقول أبي: إن العالم لا يخرِّف!
– صلة الرحم، تطيل في العمر، وتنجي من الرد إلى أرذل العمر، قال صلى الله عليه وسلم: «من سرَّهُ أن يُمَدَّ لَهُ في عمرِهِ، ويوسَّعَ لَهُ في رزقِهِ ويُدفعَ عنهُ ميتةُ السُّوءِ؛ فليتَّقِ اللَّهَ وليصِلْ رحمَهُ» (رواه البزار، والطبراني عن علي بن أبي طالب).
ومن ميتة السوء التي تدفعها صلة الرحم عن صاحبها أن يموت سليم العقل صحيح الجسم لم يرد إلى أرذل العمر.
وتبقى كل الأعمال الصالحة مانعة للإنسان من أن يرد إلى أرذل العمر، فوجب على كل مسلم أن يجعل بينه وبين الرد إلى أرذل العمر سياجاً من الطاعات وأعمال الخير حتى ينجو من هذه المرحلة العمرية القاسية بحول الله وقوته.
__________________________
(1) نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين، د. آمال صادق، ط4، ص620.
(2) تفسير القرطبي، سورة «النحل».
(3) تفسير سورة «النحل»، في التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
(4) تفسير الطبري، سورة «التين».
العميد السابق لكليتي الإعلام واللغة العربية، بجامعة الأزهر.