«كانت المرأة المسلمة في العهد النبوي واعية لشخصيتها التي قرر الإسلام الحنيف معالمها»، قدم المفكر الإسلامي عبدالحليم أبو شقة هذه الخلاصة بكتابه «تحرير المرأة في عصر الرسالة» في سياق الاستدلال على أن العامل الرئيس في تراجع دور المرأة في النهوض الحضاري للأمة الإسلامية يتمثل في الابتعاد التدريجي عن تمثل عصر الرسالة وتطبيقه النبوي، ما يقدم خلاصة أخرى لبيان الحل، مفادها: أنه لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فالحضارة الإسلامية زاخرة بأسماء الرائدات، ليس فقط في مجالات علوم الدين، كالسيدة عائشة بنت أبي بكر، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، التي عرفت بعلمها الغزير وإسهاماتها في نقل الحديث النبوي، بل برائدات في علوم الدنيا أيضاً في هذا الوقت المبكر من عمر الأمة، ومنهن الشفاء بنت عبدالله، التي كانت معروفة بعلمها في الطب وتعلمها للخط في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت هؤلاء الرائدات مثالاً للمرأة المسلمة الفاعلة والمؤثرة في مجتمعها، ومن خلال الاقتداء بهن وتمكين المرأة في مجتمعاتنا اليوم، يمكننا استعادة الدور الحضاري الذي تستحقه المرأة في الإسلام، بحسب خلاصة أبو شقة، غير أن تحديات التراكم التاريخي تواجه استعادة المرأة لدورها النهضوي.
وعلى رأس تلك التحديات التفسيرات المتشددة للنصوص الشرعية، التي تقيد دور المرأة وتعتبره محدوداً وقاصراً على أدوار اجتماعية فقط، إضافة إلى التمييز والتحيز كثقافة اجتماعية مناهضة للنساء، إذ لا تزال هناك ممارسات تمييزية وتحيزات اجتماعية تؤثر على فرصهن في المجتمعات الإسلامية، وهو ما قرره الباحث محمد عبدالرحمن، لافتاً إلى أن تغيير النماذج الثقافية التي تقيد دور المرأة هو العامل الأبرز في تمكينها وتحقيق نهضة حضارية شاملة، بحسب دراسة نشرها عام 2019م بمجلة «النهضة الثقافية».
وفي السياق ذاته، ينوه الكاتب الإسلامي حسن القرشي بأن المرأة لم تجد نفسها تحتل مكانتها الطبيعية وتتحرر تحرراً كاملاً بوصفها إنساناً مكتمل الأهلية والحقوق إلا في ظل الإسـلام، حيث تحررت من شـتى العبوديات إلا عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأصبحت مؤهلة أهلية تامة غير مقيدة إلا بما حرم الله عز وجل ورسوله، في جميع تصرفاتها وأحوالها الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مشيراً إلى أن الابتعاد عن هذا التمثل الإسلامي هو ما أفقد الأمة الإسلامية أحد أبرز عوامل نهضتها.
كانت البداية من سلب النساء أدوارهن في المساجد، التي كن يؤدينها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما علق عليه أبو شقة في كتابه بقوله: «من المؤسف حقاً ما نلحظه من حرمان المرأة حظها من المسجد؛ سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي كما حدث قروناً متطاولة، فقد كان هذا خطوة البداية، بداية الانحراف عن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسحاب المرأة من مسرح الحياة الاجتماعية بكل نشاطاتها سواء العبادية أو العلمية أو الجهادية أو الترويحية.
ويضيف أبوشقة: كان من نتيجة ذلك ضمور شخصية المرأة، ومع توالي القرون بعد البون بينها وبين المرأة في العهد النبوي وأصبحت مسخاً مشوهاً هزيل العقل ضعيف الخلق ضيق الآفق.
رؤية القرضاوي
في كتابه «فتاوى معاصرة»، ناقش العلَّامة الراحل د. يوسف القرضاوي الجنوح المتشدد لفهم النصوص الشرعية، منتقداً مجموعة من الأحاديث الواهية والمشتهرة على ألسن العامة تحط من قدر المرأة، قائلاً: «لقد حبسوها في البيت، فلا تخرج لعلم ولا عمل، ولا تساهم في أي نشاط نافع يخدم مجتمعها، مهما يكن نوعه، حتى صور بعضهم المرأة الصالحة بأنها لا تخرج من بيتها إلا مرتين: مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومرة من بيت زوجها إلى قبرها!».
يقول القرشي: إن بعض العوامل الثقافية التي رسخت دونية المرأة تواكبت لاحقاً مع حالة التمزق والتشتت الذي عرفتها الدول الإسلامية، خاصة منذ أواخر القرن الثامن عشر، حيث اجتاح العجز والمرض جسد الأمة، فتهيأت النفوس والعقول لقبول تدخل الآخر القوي وهو ما سماه ابن خلدون بـ«نحلة الغالب».
ويلفت المفكر الإسلامي المغربي عبدالسلام ياسين، في كتابه «تنوير المؤمنات»، إلى أن «نحلة الغالب» هي عبارة عن ميل من نفس المغلوب وانهزام، حتى ولو لم تكن للغالب خطة لتنحيل هذا المغلوب، متسائلاً: «فكيف والاستعمار الحاضر له خطة وإستراتيجية وتكتيك للغزو الثقافي الاقتصادي السياسي، ووسائل إعلامية مالية عسكرية؟!».
وعليه، فإن استعادة دور المرأة في النهضة الإسلامية تعتبر أمرًا حيويًا لتحقيق التنمية الشاملة والتقدم في مجتمعات الأمة، بتغيير النماذج الثقافية وزيادة فرص التعليم وتعزيز المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمرأة، وهو ما لن يتحقق إلا بالعودة إلى سياق تحريرها في عصر الرسالة، وإزالة التراكمين؛ الثقافي والتاريخي، اللذين حوَّلا معين الوحي الصافي إلى ماء العادات والتقاليد الآسن.