عرضنا في المقال السابق التوجه الثالث نحو أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر فيما يتعلق بمسألة صيغ الوحدة السياسية بعد مرحلة سقوط الخلافة الإسلامية، وذكرنا الصيغة الثالثة؛ وهي الجامعة الإسلامية، فيما نستعرض في هذا المقال توجهات تكاد تكون متقاربة في مضمونها، لمجموعة من المفكرين والدعاة وكذلك الحركات الإسلامية المعاصرة.
«كومنولث» إسلامي:
بعد ذهاب جيل رواد فكرة الجامعة الإسلامية، ظهر جيل جديد يرتكز فكره وتنظيره على المرجعية الإسلامية في جميع أبعادها، وكان من الطبيعي أن يهتم هذا الجيل بوحدة المسلمين السياسية لا سيما عقب إعلان سقوط الخلافة الإسلامية.
ومن أبرز وجوه هذا الجيل المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي يقدم مقترحاً مفاده أن يكون مشروع الوحدة السياسية الخاص بالعالم الإسلامي في صورة ما أطلق عليه مصطلح «كومنولث إسلامي»؛ أي «اتحاد فيدرالي بين العوالم الإسلامية يترأسه مؤتمر إسلامي يقوم بدور الهيئة المنفّذة لهذا الاتحاد»(1)؛ وبالرغم من إدراك بن نبي للعوائق والعراقيل التي تعترض فكرة هذا المشروع الضخم في المرحلة الراهنة التي تعيشها الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي، فإنه يعتقد بأهميّة وجدوى التخطيط العملي للمشروع، كونه يستند إلى حقيقتين قائمتين، وأن تجاوزهما يبدو أمراً متعذراً، وهما:
الأولى: أن الكتلة الإسلامية موزعة على أطراف جغرافية مترامية، في كلّ من آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ الأمر الذي يجعل العالم الإسلامي يبدو كأنه، وفق الجغرافيا السياسية، عوالم متعددة وأيضاً متباعدة، وهي:
1- العالم الإسلامي الزنجي أو الأفريقي.
2- العالم الإسلامي العربي.
3- العالم الإسلامي الخُراساني (فارس وأفغانستان وباكستان).
4- العالم الإسلامي الماليزي (إندونيسيا وماليزيا وبلاد الملايو).
5- العالم الإسلامي الصيني – المنغولي (الجنس الأصفر).
6- العالم الإسلامي الأوروبي (تركيا ودول البلقان).
بن نبي: إنشاء «كومنولث» بين العوالم الإسلامية يترأسه مؤتمر إسلامي يقوم بدور الهيئة المنفّذة
فهذا التعدد، في نظر بن نبي، يتطلب تفعيل مبدأ التكامل، وهو أمر يقتضي أيضاً الإلمام بكلّ المعطيات التي تتعلق بمكوّنات العالم الإسلامي، كي تكون فكرة تصميم وحدته بمنأى عن التعقيدات التي قد تتأتى من بعض تلك المعطيات، ولعل العنصر الشيعي أحد العوامل التي قد تضفي لوناً من التعقيد على هذا التصميم(2).
فيبدو أن بن نبي هنا يؤمن بأنه من الأجدى لمبدأ التكامل التركيز على وضع حلول للمشكلات المشتركة، والإقرار بخصوصيات بعض الأقاليم والمناطق، وذلك من منطلق أن معظم مشكلات العالم الإسلامي، ومن بينها ضعفه وتشتته، لم تكن نتيجة طبيعية لمشكلات الأمة الإسلامية المعقدة، بقدر ما كانت نتيجة لضعف أو غياب الإرادة الجماعية المؤمنة بواجب تغيير أوضاع الأمة على الصعيد السياسي والحضاري، واستعادة دور الأمة الحقيقي المتمثل في الشهود والبلاغ والتجدّد.
الثانية: فعالية العامل الروحي؛ إذ إن العالم الإسلامي، وبالرغم مما أصابه من عوامل الوهن والتخلف، وهيمنة القوى الغربية على مقدراته، قد احتفظ بوحدة روحية، وهي صالحة كي تكون عاملاً أساسياً من الناحية النفسية في تماسك هذا المشروع، كما أنها مؤهلة من الناحية الفنية أيضاً في التوفيق بين عناصره، غير أن هذه الوحدة لا يسعها أن تقوم فعلياً بدورها المرتقب منها أو المنوط بها، إلا إذا تجسّمت في صورة أو شكل يحقق إرادة العالم الإسلامي الجماعية، وهذا ربما يقتضي ضرورة مراجعة مسألة الخلافة ومفهومها على ضوء المعطيات الجديدة والتطورات التي حصلت في العالم الإسلامي.
ويذهب بن نبي إلى أن هذا الجهد ينبغي أن يضطلع به فقهاء وخبراء القانون ممن يحملون هموم الواقع الإسلامي، لكن دون تجاهل أو إغفال لما يحمله المفهوم الإسلامي لمصطلح «أمة» من تنوّع من حيث السياسة والجغرافيا والعرق.. إلخ(3).
إن بن نبي بقدر استشعاره وإدراكه للأبعاد المعقدة والعراقيل الداخلية والخارجية لمشروع «الكومنولث الإسلامي الوحدوي»، بقدر ما ينثر ويشيع روح الأمل والتفاؤل، وذلك بالاستناد إلى سنن الله تعالى في الحياة والكائنات؛ إذ إنّ بذرة الحياة ليست سوى مجرد رمز في اللحظة التي تضعها «العناية» في رحم أم من الأمهات، ما وزنها؟ لا شيء أو كاللاشيء، ومع ذلك؛ فإن مثل هذه البذور قد أنتجت الأنبياء والعبقريات الكبيرة التي وجّهت الحياة على صعيد هذه الأرض، وإذا ما اجتمع بعض الأفراد في 5 لجان أو 6، لدراسة فكرة «كومنولث إسلامي»، فإن اجتماعهم يمكن أن يبدو وكأنه لا معنى له! ومع ذلك فإن عالماً كاملاً يمكن أن ينشأ عن هذا الالتقاء(4).
ولايات إسلامية متحدة:
أما الداعية الشيخ محمد الغزالي، فنجده في كتابات كثيرة له، يُلحّ على ضرورة أن يشحذ المسلمون هممهم ويعملوا بجد وعزم على قيام وحدة إسلامية شاملة أو خلافة عظمى، ذلك أن كلّ العقائد في الأرض لها دولة أو أكثر، تُخلص في خدمتها، وإقناع الآخرين بصلاحها وجدواها، فكيف يُحرم الإسلام من دولة مركزية جامعة للأمة، تسهر على نشر مبادئه والتعريف بتعاليمه في أصقاع المعمورة؟
الغزالي: تحويل الأقطار الإسلامية القائمة في صورة دول قُطرية إلى «ولايات إسلامية متحدة»
وقد وجد الغزالي في بداية الأمر فكرة عدم الانحياز، الداعية لرفض التبعية للمعسكرين المهيمنين، خلال تلك الحقبة التاريخية؛ أي المعسكر الرأسمالي، والمعسكر الشيوعي، محطة تاريخية للتذكير بالمصير السياسي للأمة الإسلامية، والتفكير في وحدتها السياسية والإدارية، حيث يقول: «تجمّع عدم الانحياز بالنسبة إلينا نحن المسلمين، له دوافع نفسية وتاريخية وحضارية واجتماعية وإيمانية لا حصر لها، إننا نأنف من التبعية لأي جبهة أجنبية كما يأنف الفيلسوف من اتباع العامي، ولو كان هذا الفيلسوف قد جارت عليه الليالي، وكان هذا العامي يخبُّ في الحرير.. إن تقديرنا لرسالتنا ولأنفسنا يجعلنا أكبر من أن يعدّنا أي معسكر في الدنيا ذَنَباً له أو تابعاً يعيش في كنفه، ومن ثمّ فنحن لا ننحاز لأحد، إن انحيازنا هو لمبادئ الشرف وأصول العدالة، وخطتنا ينبغي أن تكون نابعة من تبعيتنا لله وحده ومن وفائنا للوظيفة الكبرى التي تخيّرتنا السماء لها(5).
ومن الصيغ التي يقترحها الغزالي لوحدة المسلمين السياسية، تحوير مؤسسة منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي حالياً) كي تصبح إطاراً مؤهلاً وقادراً على تمثيل المسلمين جميعاً، على أن يتمّ في هذه المرحلة اختيار أمين عام لهذه المنظمة، تتجسد في شخصه كلّ آمال وآلام وتطلعات الأمة الإسلامية، ليأخذ فيما بعد وضع الخليفة، ويقوم بالتكاليف المنوطة بذمة مَن يتولى هذا المنصب.
ولا يتوقف اقتراح الغزالي عند هذا الحد، بل إنه يعالج البعد الجغرافي أيضاً للعالم الإسلامي، حيث يقترح فكرة تحويل الأقطار الإسلامية القائمة حالياً، في صورة أنظمة قومية ودول قُطرية، إلى شكل «ولايات إسلامية متحدة» كما هو حال الكيان السياسي القائم في الولايات المتحدة الأمريكية، على أن يكون الرئيس المنتخب من جماعة المسلمين في قارتي آسيا وأفريقيا هو مَن يمثل خليفة المسلمين، كما أنه يكون رمزاً للوحدة الإسلامية.
مع ملاحظة أن الغزالي لا يقدّم هذا التصور للمستقبل الإسلامي السياسي على المستوى الزمني المتوسط أو البعيد، بل إنه يقدمه لهذه المرحلة، التي يغلب فيها على معظم الدول والفضاءات الإقليمية والسياسية التوجه نحو التكامل الاقتصادي والتكتّل السياسي؛ لذلك فهو يرى أن صيغة الوحدة السياسية التي يقترحها، إذا تعذّر قيامها في هذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، نتيجة أوضاعها الراهنة الموغلة في التعقيد، فإن الحدّ الأدنى من الوحدة، التي ينبغي التشبث بها، أن يجمع بين الأقطار الإسلامية والأقليات الإسلامية المتواجدة في القارات الخمس نظامٌ يضاهي من الناحية التنظيمية «الاتحاد الكونفدرالي» يسمح ببقاء المعالم المحلية، وفي الوقت ذاته يجعل المسلمين في العالم كله كتلة بشرية، يجمعهم هدف واحد وتطلعات متناغمة في الميدان الدولي(6).
فهذه الرؤية التي يقدمها الغزالي لوحدة المسلمين السياسية، فضلاً عن واقعيتها، فهي تنسجم أيضاً مع إيمانه بكون استعادة الخلافة العظمى يندرج ضمن الفروض العينية(7).
____________________________
(1) مالك بن نبي، فكرة كومنولث إسلامي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1990م، ص 44.
(2) المرجع السابق، ص 42 – 43.
(3) المرجع السابق، ص 43.
(4) المرجع السابق، ص 48.
(5) محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع، دار الكتب الإسلامية، ط3، القاهرة 1983م، ص 257.
(6) محمد الغزالي، أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية، دار الشرق الأوسط للنشر، ط1، القاهرة، 1990م، ص 75 – 76.
(7) محمد الغزالي، قذائف الحق، دار المكتبة العصرية، بيروت، ط2، د. ت، ص 146.