كم قرأنا وسمعنا مواد تحكي تاريخ المسلمين، واستعراض فتناً كبرى كمحنة زمان خلافة سيدنا عثمان عليه الرضوان، ومحنة زمان الحجّاج، ومحنة خلق القرآن وهلمّ جرًّا حتى محنة «محاكم التفتيش» وصنوف تعذيب والاضطهاد في عقود الاحتلال!
ومع كل ذلك، عندما حان زمان معايشة محنة معاصرة، إذا كل ما سبق يندثر، لأنه كان عرضًا تثقيفيًّا وتم استقباله بشكل معلوماتي، ولم يكن العمل يومًا على تأصيل متين لبِنية معرفية مسلمة، تُسعِف حاملها في رؤية الماجَرَيات (ما يجري) بعين البصيرة المدركة للصورة الكبرى، والتفاعل الحكيم الذي يُدرك أن حلّ مصيبة عمرها قرون وسببها المسلمون في أنفسهم، لن يتمّ عفو اللحظة ولا بتذمر أيام وتأفف أسابيع ودموع شهور!
ثم دونك تساؤلات المسلمين الذاهلة عن نصر الله ورحمة الله وعزة الإسلام، وتخبطهم في التعامل مع محنة كأنها أول واقعة من نوعها في تاريخ المسلمين، العامر بشواهد المحن والفتن والقهر والاستضعاف، كل هذا يعكس مدى هشاشة العلم بالحق على وجهه الحق، وبالتالي التفريط في تطبيقه والعمل به، بل عدم القدرة على تصور إمكان العمل به في زماننا الحالي!
ثم إذا كانت النُّصرة لغة تعني حسن العون، فلا يحسن معاونة المبتلى في الدنيا إلا معافى في دينه أولًا، فيُوفّق لشد أزر أخيه بالقول الرشيد والإجراء العملي معًا، ويكون ذخيرة نافعة في نفسه ولإخوانه لا سرادق رثاء فحسب؛ ومن ثم، فأول النصرة استنهاض وعي كل فرد مسلم بمسؤوليته المباشرة عن مآل الأمة الحالي وعن نصيبه في شق طريق نصرة حقة للدين الحق، دون مغالاةٍ تحمّله كامل لائمة انحطاط المسلمين، ولا تهوينٍ يقصُر بصره على نصرة بقعة واحدة من الأرض لفترة معينة من الزمن.
وإن رُمّانة كل ميزان صلاح ورأس كل إصلاح، لا قوام لأمة الإسلام بغيره، هو إجلال الحق الذي بَعثَ الله تعالى به المصطفى عليه الصلاة والسلام، وتكبّد عليه الصلاة والسلام وأصحابه وسلف المسلمين ما تكبّدوا في سبيل خدمته وحفظه وإيصاله للعالمين، وشرّفنا الله تعالى بأن نكون من أهله، وأنعم علينا بالانتساب له ابتداء بغير عناء منا.
لكن بسبب ضعف استشعار المسلم «التلقائي» (أي المولود مسلمًا جاهزًا) عِظَم هذه النعمة وقدرها وخطرها، نشأت أجيال من المسلمين الذين يتخذون الإسلام من المسلّمات التي لا تتطلب بذل جهد في التعلم أو التربي أو التعهد لحقائقه ومقتضياتها، وبسبب سطحية علم المسلمين بحقائق الإسلام ومقتضياتها في الأنفس والآفاق، لا يقوم في نفس المؤمن اليقين الواجب والحقيقي في هذا الشرع العظيم، بما يدفعه دفعًا تلقائيًّا للتحرك في الحياة وفاقًا له، أو شق طرق في الحياة انطلاقًا منه، وحق اليقين هو اليقين فيه يقينًا لا يخالطه ريب.
وإذا طالعتَ معنى «الشريعة» في معجم «لسان العرب» وجدت أن «الشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَشْرَعَةُ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الشَّارِبَةِ الَّتِي يَشْرَعُهَا النَّاسُ، فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا وَيَسْتَقُونَ. وَالْعَرَبُ لَا تُسَمِّيهَا شَرِيعَةً حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ عِدًّا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَيَكُونُ ظَاهِرًا مَعِينًا لَا يُسْقَى بِالرِّشَاءِ».
إذن لتكون الشريعة شريعة لا بد أن تكون مَنبعًا لا ينضَب، ولا بد أن يكون ذلك المنبع ظاهرًا بيّنًا للناس ليستقوا منه، لا لَبْس فيه أو استعصاء على بلوغه، إذا وَعَى المسلم تلك الدلالة، وَقَر في نفسه أن شرع الله تعالى هو سراجه الأكيد والدائم والتام في مختلف سبل الحياة، ومهما استعصى عليه أمر أو حار في إشكــال لم يتزعزع يقينه في ذلك، بل اتّهم فهمه وعلمه هو.
وتأمل فيما روته السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فِي اللَّيْلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ! قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ! قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ: أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ: الصِّدِّيقَ» (البيهقي، والحاكم).
فعجبًا لذلك اليقين الراسخ في الحق ولو أشكلت ظواهر الأمور، وعجبًا في المقابل لحالنا اليوم إذ ساد بيننا التذبذب في تصديق حقائق الدين في مواجهة أي نوع آخر من الحقائق، وصار من السهل التشكك في الدين ذاته لأدنى شبهة بدل اتهام جهلنا وقصور علمنا به وعنه، وسواء جَهَرت بذلك ألسِنَة أو أضمرت، يظلّ ذلك التشكك أو قدر منه كامنًا في قلب كثير من المسلمين إلا من رحم ربي، يخالط إسلامهم ويكدّرهم عليه.
إن من إجلال المسلم لهذا الدين العظيم أن يدرك ثم يوقن بأن الإسلام هو الحق الذي لا حق سواه ولا أنصاف حلول دونه، ولا هو سواء بأي اعتقاد آخر، ولا هو رؤية شخصية من بين رؤى أخرى كلها سِيّان! وهو عقيدة وشريعة كاملة، كل عباد الله تعالى مخاطبون به ومؤاخذون على مخالفته، وليس مجرد مظهر ثقافي وسط مظاهر أخرى ولا مخصوصًا بقوم أو جهة دون غيرهم، ولا يُقبَل عند الله تعالى في ميزان الحق إلا ما كان مِن مسلم وعلى الوجه الحق الذي شَرَعه وارتضاه.
وإذن فالنُّصرة الحقة والحقيقية التي بها تكون قَومة الأمة من رقدتها، وبغيرها لا قَوام لها بين الأمم، هذه النصرة هي نصرة الله تعالى ودينه، لا نصرة بقعة جغرافية من الأرض؛ «فالأرض كلها لله»، ولا حَرَم مقدَّسًا بعينه «فكل حُرُمات الله على قداستها متعرضة للانتهاك بشتى الصور والدرجات»، ولا قوميّة بذاتها «فالمسلم عالمي الانتماء وإن جُنِّس لاعتبارات اضطرارية».
فهل يستقيم أن يجأر المسلمون «متى نصر الله؟»، وهم ما نصروا ربهم تبارك وتعالى ولا قاموا بحق نصرة هذا الدين العظيم الذي كُرِّموا به من بين العالمين؟
ألم يأن للذين آمنوا أن يُجِلّوا الحق الذي لا حق سواه، عِلْمًا وعملًا، فينصروا الله تعالى لِيَستَنزِلوا عليهم نصره تعالى؟
بلى والله!