تعد ظاهرة الاستهلاك من الظواهر المنسية التي لم تأخذ حقها من البحث والدراسة والمعالجة؛ على الرغم من كونها تمثل طاغوتاً من طواغيت العصر؛ إذ تبرز من خلالها الرأسمالية المتوحشة في أزهى صورها، كما يبرز من خلالها غياب الإنسانية، لا سيما أن فقراء المسلمين في ازدياد بفعل الحرب والتهجير.
لم تعد الشهوانية في الشراء والاستهلاك مقتصرة على المرأة فقط، بل امتدت لفئات وشرائح أخرى، والمتأمل في طريقة لبس الشباب والفتيات يتعجب أشد العجب! والأعجب أن يوصف بالتخلف؛ لأنه كان عليه أن يعرف ويتابع «الموضة»، ويخجل من جهله بآخر صيحة في عالم الجمال والشياكة!
قبل فترة أجريت حواراً صحفياً مع مسؤولة للعلاقات العامة بأحد مراكز التجميل العالمية، وخلال هذا الحوار طالبت هذه السيدة بتسهيلات بنكية للذين يرغبون في إجراء عمليات تجميلية ولا يملكون المال اللازم، لا سيما عند الرجال، حتى يكونوا أكثر ثقة بأنفسهم!
خطر ببالي وهي تتحدث، كيف تفشت ظاهرة الاستهلاك في مجتمعاتنا، في ظل غياب واضح للدور التوعوي والتثقيفي على كل المستويات؛ بدءاً من الأسري والخطاب الديني، مروراً بالخطاب الإعلامي، وصولاً إلى عموم التفكير الاجتماعي.
لقد حث ديننا الحنيف على ترشيد الاستهلاك والاعتدال في كافة الأمور بما في ذلك العبادات، تحقيقاً لقاعدة التيسير ورفع الحرج، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: 67)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».
والإسلام حين يطالب بترشيد الاستهلاك والاعتدال فإنه لا يرمي إلى الحرمان من الطيبات، بل أنكر القرآن على من يحرم الاستمتاع بالطيبات، يقول الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)، غير أن كثيراً من المسلمين اليوم بات همهم الوحيد رفع مستوى المعيشة، ومن ثم انغمسوا في العمل من أجل زيادة الكسب من أجل مزيد من الإنتاج لأجل مزيد من الاستهلاك.
وعلى جانب هذه العملية المتواصلة، تبرع وسائل الدعاية والإعلان في فتح شهية الإنسان على مزيد من الاستهلاك الذي يسهم في تبديد الموارد الطبيعية، فيتسبب ذلك في حرمان بعض الناس من أبسط حقوقهم.
فلسفة ضارة
على مر التاريخ، لم تعان الأرض مثلما تعاني الآن، ففي السابق كان الناس ينتجون ما يحتاجون إليه، ويستهلكون في الغالب ما يكفي احتياجاتهم بالفعل، لكن تغير الوضع كثيراً لا سيما مع بروز الفلسفة الرأسمالية التي تعتمد على الاستهلاك لأجل الاستهلاك، الأمر الذي تسبب في إحداث عديد من المضار الصحية والبيئية.
وهذه الفلسفة ابتكرت من الوسائل والأدوات ما جعلها تنتعش وتنتشر في ربوع الأرض، فمن السموم المنتشرة في عصرنا الحالي ما يعرف بالإعلانات التجارية، فقد دخلت كل بيت، وصارت هي التي تخلق احتياجاتنا، وترشدنا إلى أمور نعتقد أنها من أولويات الحياة لكنها في الحقيقة غير ذلك تماماً، فهي تقدم نوعاً من الظلال للمشاهدين ولا تقدم الواقع، بينما يظن الإنسان أنه يعيش الواقع، وخطرها يتمثل في أنها عززت الثقافة الاستهلاكية بالشكل الذي يهدد المجتمعات لدرجة أن ينبري أحد أساتذة الاتصالات في أمريكا بتأليف كتاب بعنوان «الإعلانات التجارية ونهاية العالم».
كما أن هذه الإعلانات العابرة للقارات جعلت كل شيء قابلاً للبيع، حتى لو لم يكن معه من المال ما يكفي لشرائه، فهناك القروض مع التسهيلات اللازمة، ولن تجد بائعاً ينصحك بترشيد الاستهلاك، بل إن أحد أشهر قواعد البيع اليوم تدور حول معنى واحد ألا وهو «لا تقع في حب العميل»؛ لأنك لو وقعت في حبه فسوف تنصحه، ونصحك حينئذ ليس في صالح المنشأة التي تبيع المنتج أو تنتجه.
وبخلاف الوسائل والأدوات ابتكر الرأسماليون ما يعرف بـ«الموضة»، وجعلوا لها برامج ومنتديات، وبالنظر إلى أصل كلمة «موضة» نرى أنها معربة من الكلمة الفرنسية «مود»؛ التي تعني الشكل، ولعل من معناها تبرز الإشكالية، فالموضة كلمة ذات دلالة واضحة على تفريغ الظاهرة من أي مضمون؛ إذ إن محور اهتمامها منصبّ على الشكل؛ ما يعني أنها غير مرتبطة بأي رابط ولا منضبطة بأي ضابط من ضوابط التعاطي أو الحكم على الشكل، ولهذا نراها تتغير من وقت لآخر فتزاد الطاقة الشرائية وتعلو الشهوة الاستهلاكية، ولا تتوقف عجلة مصانعهم، عندما تستوي وتيرة الاستهلاك بوتيرة الإنتاج على حساب المصلحة الحقيقة للإنسان.
عبودية استهلاكية
ولعل في ذلك هدفاً من أهداف الذين أسسوا لتلك الظاهرة ووضعوا فلسفتها، إنما الأخطر من ذلك تعزيز مبدأ العبودية الاستهلاكية علاوة على تعزيز مبدأ الاستغفال الذي يجعلنا كشعوب مستكينة فارغة وقوداً لمكينة الرأسمالية الشرسة!
وفي هذا الإطار، هناك كثير من بيوت المسلمين، رغم ضيق ذات اليد، تعمد إلى إلقاء بقايا طعام صالحة في صناديق القمامة، ولا أدري أهو ضعف تقدير للنعمة، أم أن الأمر محض خجل من ربة البيت من التصدق بالشيء البسيط فترتاح إلى التخلص منه دون أن يستفيد منه محتاج أو مسكين!
جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتصدق بحبة عنب واحدة، وجاء عن غيرها من الصحابة أنهم تصدقوا بحبة عنب واحدة، ولما كانوا يسألون عن ذلك، كان الجواب: هذه –أي حبة العنب- أثقل من ذر كثير.
وكانوا بفعلهم هذا يشجعون الناس على التصدق بالشيء متناهي الصغر، وذلك أن الأغلبية كانت تستقلل أن تعطي التمرة ونحوها للمحتاج ويكون مكانها الطبيعي أكياس النفايات.
وجاء في السُّنة النبوية حث وتوجيه صريح على التصدق ولو بنصف تمرة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (رواه البخاري ومسلم).
واليوم قد يجد الإنسان منا في نفسه حرجاً أن يعطي الآخرين شيئاً يسيراً من أرز ولحم وفاكهة وغير ذلك من أنواع الطعام؛ لأنه يقيس الأمر على نفسه هو، غير أن الآخر قد يكون له هذا القليل شيئاً كبيراً.
بعيداً عن قضية الإفادة للمحتاج، هناك قيمة مهمة جداً تتعلق بفلسفة الإسلام في قضية التخلص من النفايات التي إن تكاثرت وزادت كانت سبباً في انتشار الأمراض والأوبئة، لأن ما تتكاسل عن منحه للفقير لصغر حجمه أو ضعف قيمته سيذهب إلى مقالب النفايات، ولا يتوقف الأمر على جزء يسير منك.
إننا حين لا نستقلل أن نعطي الفقير والمحتاج الصدقة متناهية الصغر، فإننا نساهم في تقليل حجم النفايات، ومن ثم حماية المجتمع والبيئة من الأمراض والأوبئة، كما أننا نساهم في الحفاظ على موارد الدولة من أن يكون مصيرها إلى مقالب النفايات دون أن يستفيد منها الناس.
إن بث قيم الاستهلاك الإيجابي الرشيد أمانة يتحملها المربون والمربيات، ورحم الله من قال: أكلما اشتهيت اشتريت؟!