البوصلة عبارة عن أداة ملاحية تستخدم لمعرفة الاتجاهات على سطح الكرة الأرضية، وبها نعرف الشرق من الغرب والشمال من الجنوب، وكثير ما يحتاجها المسلمون لأجل التوصل إلى أدق اتجاه للكعبة المشرفة لمن هم بعيدون عنها، وعلى قدر دقة البوصلة يكون تحديد اتجاه القبلة بدقة عالية بناءً على الموقع الجغرافي، وذلك لتوجيه المسلمين في أداء صلواتهم الجماعية أو الفردية، وفقدان البوصلة قد يفقدنا معرفة قبلتنا، أو يجعلنا نتخبط وتختلف آراؤنا في اتجاه القبلة، وقد يصلي كل منا عكس الآخر وكل حسب اجتهاده، والخلاصة أن فقدان البوصلة لا يجعلنا متحدين، بل يفرقنا وإن حسنت النوايا والاجتهادات.
البوصلة وحركة الكون
خلق الله تعالى الكون كله بحكمة ودقة غير محدودة، وجعل لكل شيء فيها مركزه الذي يتوجه إليه، وبوصلته التي تضبط له حركته في الكون، فالدم في جسم الإنسان يجري وفق بوصلة محكمة، ويدور بلا انقطاع من الخلايا للأوردة للقلب للرئتين ثم للقلب ومنه عبر الشرايين للخلايا مرة أخرى، وقد تَحَمَّلَ بالغذاء والأكسجين اللازمَيْنِ لحياة الخلايا ونموها، ولو فقد الدم بوصلته لمات الإنسان على الفور، وما يقال في الدم يقال في دورة الأكسجين، وفي الأعصاب، وفي غيرها من الوظائف في الجسم.
والأرض التي نعيش عليها تجري وفق بوصلتها لتدور بدقة متناهية حول الشمس، وتخيل لو فقدت الأرض بوصلتها ولو للحظة واحدة لزالت ولزال مَن عليها، فسبحان من ضبط لها بوصلتها، وسيرها حول مركزها، والشمس بدورها تدور وفق بوصلتها في مجرتها، والمجرات بدورها تدور في بوصلتها، وأي خلل يؤدي للزوال، ولكن الخلل هنا مستبعد لأن كل هذه المخلوقات مسيرة بأمر ربها، تسبح في فلك بأمر الحكيم سبحانه وتعالى ولأجل مسمى، أي تعرف بوصلتها وتتبع هديها.
الإنسان والبوصلة
قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: 72)، ففي الوقت الذي التزمت فيه كل المخلوقات ببوصلتها ودارت حول مركزها الذي خلقت له، نجد الإنسان الذي تحمل الأمانة التي أبت أن تحملها السماوات والأرض، والذي كان لزامًا عليه أن يعرف بوصلته الحقيقية وأين يتوجه، إلا أنه هو المخلوق الوحيد الذي فقد بوصلته، وضل عن مركزه وبدأ يدور حول مركز آخر فيه هلاكه، وتخبط بين المراكز التي يدور حولها، وذهب به الشيطان كل مذهب -إلا من رحم الله تعالى- وما ذلك إلا لفقدانه لبوصلته.
فابن سيدنا نوح عليه السلام لم يعصمه الجبل الذي آوى إليه، وجرفه الطوفان فكان من الهالكين، والنمرود قتلته بعوضة! لا لقوة البعوضة، ولكن لأن النمرود فقَدَ بوصلته فصار أضعف من بعوضة! وفرعون ومن معه غرقوا في اليم لأنهم فقدوا بوصلتهم فساروا في الطريق الخطأ، وضل اليهود والنصارى لفقدان بوصلتهم أيضًا، ورفضت الرافضة، وخرجت الخوارج، وأرجأت المرجئة، واعتزل المعتزلة، وتدعشن الدواعش، كل ذلك لفقدان البوصلة.
البوصلة والأمة الإسلامية
أمتنا الإسلامية لها بوصلة تُبيِّنُ لها المسار، وتوجه وجهتها وتدلها لصوابها، والبوصلة هنا هي كتاب الله تعالى، وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال عنه الله عز وجل: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، وقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52)، وقال عنها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»(1)؛ إذن فتلك هي البوصلة الحقيقية للأمة الإسلامية، وهي التي لا تدل على القويم من الأمر، بل تدل وتوصل لما هو أقوم، قال تعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9).
فقدان البوصلة سبب الضعف
فمن فقَدَ بوصلته ضلَّ الطريق، وهذا ما حدث للأمة الإسلامية، فلما جعلت كتاب الله تعالى خلف ظهرها، ولم تهتد بهديه، ولم تتبع سُنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ ضلَّت وتشتت وضعفت؛ لأن كتاب الله تعالى يدعوها لسبب قوتها وسبيل عزتها وهو وحدتها، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103)، وقال سبحانه: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وهو الذي ينهاها عن سبل الضعف والهوان، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: 105)، وقال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46)، قال الشيخ المراغي: أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف، فإن ذلك مدعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة، فيتغلب عليكم العدو(2).
ويصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم المشهد كاملًا، من ضعفنا وتكالب الأمم علينا، وهو عين ما يحدث اليوم لهذه الأمة، وسبب أن الأمم الكافرة أصبحت لا تهابنا كما كانت في سابق العهد، فيقول: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»(3).
وحاصل الأمر أن الأمة إذا ما فقدت بوصلتها وهي كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ أصبحت لا تعرف طريقها الصحيح، وبتوهانها عن طريقها تضل، ولا تعرف هدفها ولا غايتها، ولا تعرف كيف تهتدي؛ فيدب فيها الضعف والوهن والخذلان، وبفقدها لبوصلتها تتخبط فتراها تارة تطلب النصر من الشرق الملحد، وتارة من الغرب الكافر، وتتسول من مجلس الأمن أن ينصرها على دول مجلس الأمن، وتحاول عبثًا مع عدوها أن ينصرها على نفسه، وتلك هي قمة البلاهة والتياسة! فبدلًا من جمعها لقواها واعتمادها على مولاها، واتحادها لتقوى على عدوها تراها تستنجد على عدوها، وتستنجد عليه به، سبحان الله ما أعجب هذا؟! ويشبه الشاعر هذه الحالة بمن يريد من الثعبان أن ينفث شهدًا بدلًا من السم، يقول الشاعر:
يا طالب النصر من أعداك مت كمدًا كطالب الشهد من أنياب ثعبان
والحقيقة المرة أن الأمة ما وصلت لهذا الضعف ولا لهذا الهوان ولا لهذه الذلة والمهانة إلا لأنها فقدت بوصلتها، فصارت تتخبط في ظلمات الجهل والهوى.
فهذه بوصلتنا الحقيقية وسبب عزتنا ورفعتنا في الدنيا والآخرة، كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم يهدياننا إلى الوحدة والقوة والنصر والعزة، فهل من ملبٍّ؟! وهل من مجيب؟!
_______________________
(1) مالك في الموطأ (2/ 899).
(2) تفسير المراغي (10/ 10).
(3) رواه أبو داود من حديث ثوبان (4297).