فئام من الناس آثروا الراحة والهروب على الجد والعمل الدؤوب، آثروا الجبن والانزواء على التقدم والارتقاء، آثروا السلبية المميتة على الإيجابية الشريفة، رضوا بأن يكونوا في المؤخرة لا أن يكونوا رأس النفيضة، قال عنهم العلامة الرافعي: «إن لم تزد شيئاً على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا»(1).
لم يرعهم ما يحدث لإخوانهم صباح مساء؛ قتل هنا وتشريد هناك، انتهاك للحرمات وتدمير للمقدسات، واعتقال للقامات ووأد للقيم والحريات؛ (رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) (التوبة: 87)؛ يقول العلَّامة السعدي في تفسيرها: «كيف رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع النساء المتخلفات عن الجهاد، هل معهم فقه أو عقل دلهم على ذلك؟ أم طبع الله على قلوبهم فلا تعي الخير، ولا يكون فيها إرادة لفعل ما فيه الخير والفلاح؟ فهم لا يفقهون مصالحهم، فلو فقهوا حقيقة الفقه لم يرضوا لأنفسهم بهذه الحال التي تحطهم عن منازل الرجال»(2).
خفافيش الظلام
من آثار البشير الإبراهيمي قوله: «إن تحرير العقول أساس لتحرير الأبدان وأصل له، ومحال أن يتحرر بدن يحمل عقلاً عبداً»؛ لأن العبد يحب الذل ويرفض الاستقلالية ويعشق الرق ويهرب من نسيم الحرية؛ لذا كان حجر الزاوية تحرير العقول أولاً من الأوهام والخرافة والحجج الواهية والدعاوى والأكاذيب الباطلة، وقل لي بربك: من ينهض لهذه المهام العظام؟ إنهم أصحاب العقول النشطة والهمة العالية الذين آثروا الباقية على الفانية، أما أصحاب العقول الباردة فإنهم لا يحملون ثقل الأمانة ولا تكاليف الرسالة؛ منقبضين عند الزحوف، مرتعشين عند الوقوف، محبين لظلال السقوف، أتباع كل زاعق وناعق من أرباب القوة والمكانة والمنعة، ضيوف كل الموائد وزبائن كل الموالد.
الإمام الممتحن
العلماء هم عقد جيد الأمة وتاج رأسها ومحط فخرها ومناط عزها، وإن في تاريخ العظماء لخبراً، وإن في سير العلماء لعبراً، قال أحمد بن دؤاد، قاضي المحنة أيام فتنة خلق القرآن، أبو سعيد الواسطي: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبدالله، عليك عيال ولك صبيان وأنت معذور، كأني أسهل عليه الإجابة، فقال لي أحمد بن حنبل: «إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت»(3)، بقليل من التأني والتفكير في هذا الموقف نرى مجموعة من الفوائد والفرائد يمكن الاستفادة منها:
أولاً: تقديم الأعذار واختلاق المبررات من سمات النفوس الضعيفة والعزائم اللينة والفطر المنكوسة، وما أكثر أصحاب العقول المستريحة في دنيا الناس! يريح أحدهم دماغه وتفكيره ويركب في سفينة مع الماشي، «إمعة» مع الناس إحساناً وإساءة، بلا وعي ولا رأي، إنه ضعيف الشخصية مهزوز الثوابت تابع لمتبوعه، وأحمد بن دؤاد رأس الفتنة والداعي إلى إحياء هذه البدعة (بدعة خلق القرآن) ذهب إلى الجبل الأشم والبدر الأتم ليثنيه عن عزمه ويرده عن رأيه ويقتل همته ويقوض عزيمته، رضوخاً للواقع وخوفاً على فوات الرزق وضياع الأولاد، ولكن هيهات! فالرجل نسيج وحده يقتفي أثر الكبار؛ «لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا»(4).
ثانياً: من عاش لنفسه عاش صغيراً ومات حقيراً، ومن عاش لدينه وأمته عاش كبيراً ومات عظيماً، وكان بوسع الإمام أحمد أن يقول لهم: القرآن مخلوق، ولا حرج عليه طالما قلبه مطمئن بالإيمان، لكنه يستشعر عظم المسؤولية، ويدرك أن الدين أمانة وكلمة الحق أمانة والنطق بها ديانة، ثبت على رأيه وعقيدته ولم يتزحزح قيد أنملة، وزج به في السجن ثمانية وعشرين شهراً، وصدق ابن المديني: «أعز الله هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث؛ أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة»(5)، وإن كان السجن مقبرة للعظماء وشماتة للأعداء، فإنه رفعة وعلو للشرفاء أصحاب المبادئ النجباء.
ثالثاً: كان الإمام أحمد على يقين جازم بأن البلايا تنطوي على كثير من العطايا، وأن ولادة البهجة لا تأتي إلا بعد مخاض الألم، فأخذ بالأسباب وصدع بكلمة الحق مستعيناً برب الأرباب؛ (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (آل عمران: 154)، ومن لطائف ابن القيم: «أصدق الله، فإذا صدقت عشت بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيك ما تحذره، ولطفه يرضيك بما يقدره»(6)، وإنك والله لتعجب كيف أخرجه الله من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، وقد سد ثلمة عظيمة كادت تحدث في الإسلام، وبقيت ذكراها تفوح عطراً وتزداد ذكراً مع الأيام.
وقبل الختام يبقى سؤال يعقبه علامة الاستفهام؟ هل صادفت في حياتك نفراً من المثبطين والمتخاذلين أصحاب العقول المستريحة؟ إن كان فيكفيك رداً على هؤلاء مطالعة سيرة العالم الرباني أحمد بن حنبل الشيباني، يا قومنا: أفيقوا قبل أن يبتلع اليم سفينة النجاة.
______________________
(1) وحي القلم (2/ 86).
(2) تفسير السعدي، ص 201.
(3) طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى (1/ 43).
(4) سنن الترمذي (2007)
(5) تاريخ الخطيب البغدادي (4/ 418).
(6) بدائع الفوائد، ص 186.