التضحية خلق من أعظم الأخلاق الإسلامية، إذ يتجلى فيه جملة من الأخلاقيات العالية الأخرى، منها الإيثار والعطاء والبذل والكرم، أدناها بذل الوقت، وأعلاها بذل النفس في سبيل الله، ومنها بذل المال والسعي على حاجة الناس.
وقد رغب القرآن في التضحية وأعلى من شأنها، فقال تعالى في بذل النفس: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) (آل عمران: 140)؛ قال القاسمي: «أي: وليكرم ناساً منكم بالشهادة ليكونوا مثلًا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق، واستماتة دونه، وإعلاء لكلمته»(1).
وكذلك بينت السُّنة النبوية مكانة من يبذل نفسه لله تعالى، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد انتدب الله لمن خرج في سبيله -لا يخرجه إلا الإيمان بي، وتصديق برسلي- أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي، ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» (رواه البخاري).
وفي التضحية بالمال عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» (رواه مسلم).
أولاً: فوائد التضحية:
وللتضحية فوائد عديدة على الفرد والأمة، ولنا أن نتخيل مجتمعاً بغير تضحيات أو مضحين كيف تكون حاله؟! ليس أقل من نشر قيم الأنانية ويظهر الخوف والوحشة بين الناس، ومن فوائد التضحية وعوائدها على الفرد والأمة:
– نصرة للدين.
– تحقيق التكافل بين طبقات المجتمع.
– تقوية الأمة، وتحقيق تماسكها، وتصبح قوية البنيان عزيزة الجانب.
– تحقيق التراحم بين نسيج المجتمع الإسلامي كله.
– تحقيق العزة.
– تحقيق السعادة.
ثانياً: أقسام التضحية:
تنقسم التضحية إلى قسمين:
1- التضحية المحمودة (المشروعة): ومنها:
– التضحية بالنفس في سبيل الله: قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216)؛ أخبر أنه مكروه للنفوس، لما فيه من التعب والمشقة، وحصول أنواع المخاوف، والتعرض للمتالف، ومع هذا، فهو خير محض، لما فيه من الثواب العظيم، والتحرز من العقاب الأليم، والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم، وغير ذلك، مما هو مرب، على ما فيه من الكراهة(2).
– التضحية بالمال: قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {10} مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد).
كذلك تدل وقائع التربية النبوية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشترطها، ويجعلها شارة الإيمان وصدقة، والإنسان عنده ميل فطري إلى أن يضحي بنفسه وماله في سبيل الأعلى، بل إن هذه التضحية أمر راسخ في فطرة الإنسان، وجزء من وجوده، وما تعظيم الشجاعة عند البشر إلا تقديراً لقيمة التضحية في سبيل المثل الأعلى، ولذلك جعل الجهاد أفضل الأعمال(3).
2- التضحية المذمومة (غير المشروعة):
هي التضحية في نصرة باطل، أو من أجل جاهلية، وكل تضحية لم تكن في سبيل الله أو ابتغاء مرضاته، أو تحقيقاً لمقصد شريف نبيل فهي مذمومة.
عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، وقال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً، فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل» (رواه البخاري).
ثالثاً: صور التضحية:
– التضحية بالنفس؛ وهي من أعلى مراتب التضحية: عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة، أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانة، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير» (رواه البخاري ومسلم من حديث أنس).
– التضحية بالمال: عن ابن عباس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (رواه مسلم).
وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟»، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً. (رواه أبو داود والترمذي).
– التضحية بالوقت لبذل العلم.
– التضحية بنفع البدن.
رابعاً: موانع اكتساب صفة التضحية:
– عدم الإخلاص لله في العمل.
– حب النفس والأثرة.
– الانغماس في اللهو والترف والدعة.
– إساءة الظن وعدم الثقة.
– ضعف الإيمان، والتفكير في الزرق الذي يقعده عن الإنفاق والتضحية بالمال، والخوف من الموت الذي يقعده عن الجهاد والتضحية بالنفس.
– التعلق بالدنيا وزينتها، والتثاقل إلى الأرض؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة)؛ إنها ثقلة الأرض، وثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع، ثقلة الراحة والاستقرار، ثقلة الذات الفانية، والأجل المحدود، والهدف القريب، ثقلة اللحم والدم والتراب(4).
– البخل، وعدم الإنفاق في سبيل الله؛ قال تعالى: (هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الصف).
خامساً: الوسائل المعينة على اكتساب صفة التضحية:
– عدم الانكباب على الدنيا.
– التخلص من الروح الانهزامية؛ قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).
– حب الآخرين.
– التحلي بالشجاعة والإقدام.
– التحلي بعلو الهمة.
– التحلي بالكرم وعدم البخل.
– مصاحبة أهل الخير والرفعة، الذين ينفقون أموالهم ودماءهم في سبيل نصرة دين الله.
– اليقين الجازم بما أعده الله لعباده المجاهدين في سبيله، قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39).
– قصر الأمل في الدنيا.
– القراءة في أخبار السلف الصالح، والنظر في تضحياتهم بالنفس والمال، لنستلهم العبرة من أخبارهم ونقتدي بهم.
إن شأن المؤمن كله خير، وإن أخلاقه كلها إيجابية لا تنعكس عليه وحده، وإنما يستشعرها في نفسه وأهله ومجتمعه وأمته، ومن هنا اكتسبت أهميتها فهي ليست خياراً فردياً، وإنما واجب على الجميع أن يتحلى بها قدر استطاعته(5).
_________________________
(1) تفسير القاسمي (2/ 419).
(2) تفسير السعدي، ص 96.
(3) أهداف التربية الإسلامية، ماجد الكيلاني، ص128.
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب.
(5) موسوعة الأخلاق الإسلامية، ج 3، ص 23.