اتسمت العقود المتأخرة بكثير من التعقيد والتداخل، على المستويات كافة، خصوصًا المستويين الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث شهدت تطورات تنموية متسارعة كان لها آثارها الإيجابية في رفاه الإنسان، لكن رافقتها آثار سلبية مسّت واقع الأُسر وأحدثت شروخًا في جُدُرها استعصى على البعض علاجُها، منها عادات الاستهلاك غير المنضبط، ووجود عجز بين إيرادات الأسرة مقابل نفقاتها، والفشل في تغطية هذا العجز.
وللأسف، فإن كثيرًا من البيوت المسلمة ابتُليت بهذه المعضلات، وفات أصحابها أن المال أمانة لدى المسلم، استخلفه الله إياه ولسوف يسأله عنه يوم القيامة من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ كما سيسأله سبحانه عمن يعول: حفظ أم ضيّع؟
دستور البيت المسلم
في كتابه «اقتصاد البيت المسلم في ضوء الشريعة الإسلامية»، يضع د. حسين شحاتة عددًا من القواعد الكلية التي تحكم المعاملات الاقتصادية للبيت المسلم، وهي مستنبطة من نصوص الوحيين؛ ما يشكّل «دستورًا اقتصاديًّا مقاصديًّا» لتحقيق الكليات الخمس؛ حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وهو ما يميز البيت المسلم عن غيره من البيوت؛ إذ هي قواعد إيمانية، نابعة من العقيدة ومن قيمها الأخلاقية، ترعى الاعتدال والتوازن في كل شيء، وتلتزم بأولويات الإنفاق التي رتبها الشرع وتبدأ بالضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينات.
وهذا ما يستدعي التخطيط لميزانية الأسرة وتوجيه إيراداتها؛ لمنع العجز إن وُجد، وإشباع احتياجات أفراد الأسرة، ومواجهة الطوارئ، أو توليد موارد جديدة تدعم الرصيد الادخاري أو الاستثماري للعائلة.
أهمية ميزانية الأسرة
التخطيط المالي للأسرة، بوضع ميزانية دورية لها، يساعدها في حسن توجيه مدخولاتها، والموازنة بين الإيرادات والمصروفات، ووضع ضوابط للإنفاق، وتحديد الأولويات، فكما يخطط ربُّ الأسرة لجلب المال والبحث عن طرق اكتسابه؛ وجب عليه أيضًا تحديد أوجه الإنفاق، من دون إسراف أو تقتير؛ (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، ولا حرج في الاستفادة من تجارب الآخرين عند وضع هذه الميزانية، ومن المفيد أيضًا تشارك أفراد الأسرة جميعًا في وضعها، وأن تكون مرنة، قابلة للتجريب والتعديل، ويفيد كلُّ ذلك في حصر مصادر دخل الأسرة ونفقاتها المتوقعة، فيُعرف من ثم مقدار العجز أو الفائض، فيتم التخطيط لاستثمار الفائض أو لسد العجز.
وثمة معوقات تمنع الأسر من إعداد ميزانية؛ منها النمطية وعدم الرغبة في التغيير أو إيجاد حلول، أو الجهل بأهمية هذه الميزانيات؛ ما يسبب اضطرابات مالية تؤثر بشكل مباشر على استقرار البيت، بل قد تؤدي إلى جنوح بعض أفراد الأسرة والوقوع في مخالفات شرعية وقانونية.
قواعد إعداد الميزانية
حدد خبراء المالية وشؤون الأسرة عددًا من القواعد قبل الشروع في إعداد ميزانية الأسرة، منها:
– تحديد الهدف الذي تسعى إليه الميزانية، فهدفُ سد الخلل المالي غير من يسعى إلى التوفير أو الاستثمار وهكذا.
– تحديد أولويات الإنفاق، وصياغة قائمة بها، يمكن تعديلها كل شهر أو عدة أشهر حسب المدة الزمنية للخطة.
– وضع حد أقصى لإنفاق كل فرد من أفراد الأسرة على حدة.
– الاعتماد على الدخل الثابت للأسرة عند وضع الميزانية، وما زاد على ذلك يحدد له وجه صرف آخر بعيد عن الميزانية.
– التوازن ما بين الصرف والادخار، فلا إفراط يسبب العجز المالي، ولا تفريط يؤدي إلى التقتير المنهي عنه؛ (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء: 29).
– مراعاة التنويع في النمط الاستهلاكي، وفق ميزانية مرنة؛ كي لا يُرهق أفراد الأسرة ويشعرون بالضيق.
– تقويم الميزانية بعد انتهاء أمدها الزمني، والاستفادة من نتائج هذا التقويم.
توجيه الإيرادات
توجيه الإيرادات أو تفعيل ميزانية الأسرة يتضمن تحديد الإيرادات أولًا، ثم تحديد النفقات، ثم تحديد إن كان هناك فائض أو عجز؛ وبناء عليه يتم العمل على سد العجز، أو ادخار الفائض، ففي حال كانت هناك خسارة يجب تقليل النفقات، بترشيد الاستهلاك وتجنب الإنفاق غير الضروري، ومراجعة بنود الصرف بندًا بندًا، ومشاورة أفراد الأسرة في منعها أو تخفيضها، بما يساعد في ضبط جانب الصرف من ناحية ولا يضر باحتياجات أفراد الأسرة من ناحية أخرى.
وإن كان في الميزانية فائض يتم التخطيط للاستفادة منه؛ إما باستثماره في أحد المشروعات، بعد دراسة جدواه، أو بادخاره لأي طارئ أو أزمة قد تقع للأسرة، لا قدر الله، أو للتوسعة على الأهل والأبناء، أو لتحسين المستوى المعيشي والصحي والتعليمي إلخ.
ويقع على الزوجة العبء الأكبر في توجيه الإيرادات، بل في إنجاح ميزانية الأسرة عمومًا؛ إذ إنها تفوق الرجل في القدرة على التعامل مع المتغيرات الاستهلاكية، بحكم أنها الأكثر انشغالًا بقضايا المنزل.
محاذير
فليحذر الزوج أو الزوجة المسلمة من الاستجابة للضغوط المجتمعية التي تحض على الاستهلاك المذموم دون النظر إلى عواقبه.
لتكن مرجعيتنا هي الشرع فيما يطرأ من ظواهر اقتصادية تمس الأسرة، فلا نقيس بمقاييس الآخرين، مهما كان شخصًا أو هيئة.
لا تنس أن تضع في بند النفقات صدقة ولو قليلة، وسوف تجد أثرها زيادة في رزقك، وبركة في أهل بيتك، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
حبُّك لأبنائك لا يمنع من إلزامهم بالقصد في الغنى والفقر، فإنه «لا عالَ من اقتصد»، وإن أول البيوت خرابًا هو بيت المسرف المبذر أخي الشيطان.