لقد جاء النظام الرأسمالي الغربي بالتوسع المبالَغ فيه في النمط الاستهلاكي، الذي يستنزف المداخيل، ويأكل المدَّخرات في أمور قد يستغني عنها الإنسان.
وساعدت الدول الاستعمارية على نشر هذا النظام وذلك النمط في بلدان العالم، واستمرار جعل هذه البلدان أسواقًا لمنتجاتها، فاستبدلت السيطرة الاقتصادية بالاحتلال المباشر.
وتفشي هذا النمط الاستهلاكي وعدم الانكفاف عنه يدخل في عبودية الناس لشهواتهم التي لا يستطيعون ردعها وكفها وتهذيبها.
وهذا النمط قديم قدم البشرية، لكنه الآن ظاهرة عامة في كل البلدان، وتورط فيه الغالب الأعم من البشر؛ فتجد -مثلاً- الفقير المعدم يملك أحدث الهواتف المحمولة.
لكن القاعدة القرآنية تعتمد على التوازن في الحياة، والتمتع بالطيبات دون إفراط أو تفريط، ومن هذه القواعد:
1- (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف).
2- (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء: 29).
3- (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67).
وكذلك كانت السُّنة القولية والفعلية مؤكدة هذا التوازن، وأن التمتع بالحياة مطلوب؛ لأنه هبة الله إلى خلقه، لكن لا يكون غاية في ذاته فينشغل به الإنسان عن واهب النعم، وينقلب من كونه عبدًا لله إلى عبد للشهوات والملذات، قال النبي ﷺ: «كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا في غير مَخِيلة ولا سرف، إن الله يحب أن تُرى نعمته على عبده»(1).
فإذا لبستَ أفخم الثياب دون تكبُّر بها على الناس وازدراء لهم، ودون الإكثار فيما هو فوق الحاجة فأنت في دائرة المباح، وهذا من باب إظهار نعمة الله والإقرار بها وشكرها.
لكن إذا كان همُّه وشغله الشاغل العمل من أجل تحصيل أغلى الملابس، وأنفس الأطعمة والأشربة؛ فهو أسير لتلك الغاية الخسيسة، وقد دعا النبي ﷺ على أمثال هؤلاء فقال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»(2).
وإذا كثرت هذه الفئات بالأمة فهذا نذير شؤم عليها، ودليل على انحراف بوصلة الأمة، وأنها تركت معالي الأمور، وراحت تعمل على تغذية الشهوات التي تقترب بها من الحيوانية.
وهذه الفئات المنغمسة في ذلك واقعة في شر عظيم، يقول النبي ﷺ: «سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ، يَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي»(3)؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يَكْبَحْ جُمُوحَهَا بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ عَنْ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا تَقُودُهُ إِلَى الْإِسْرَافِ وَإِلَى شُرُورٍ أُخْرَى.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ضَرُورَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَلَكِنْ ضَلَّ فِيهَا فَرِيقَانِ مِنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ: فَرِيقُ الْبُخَلَاءِ وَالْغُلَاةِ فِي الدِّينِ.
وَفَرِيقُ الْمُتْرَفِينَ الْمُسْرِفِينَ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ، فَإِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فَيَأْكُلُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْجُوعِ، وَيَشْرَبُونَ عَلَى غَيْرِ ظَمَأٍ، وَيَتَجَاوَزُونَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا يَتَجَاوَزُونَهُ فِي غَيْرِهِمَا(4).
وقد جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن من الإسراف عدم ردع النفس عن شهواتها فقال: «كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى»(5).
وهذه الرؤية كان يحاول أن يطبقها على رعيته؛ وقد جرى حوار بينه وبين سيدنا جابر بن عبدالله كاشف عن ذلك؛ إذ رأى عمر لحمًا معلَّقًا في يد جابر، فقال: ما هذا يا جابر؟ فقال: اشتهيت لحمًا فاشتريتُه، فقال عمر: أوَكلمَّا اشتهيت اشتريت(6)؟!
وقد كان الاقتصاد والاتزان سمتين بارزتين في الصحابة، وهذا ما تنبئ عنه كلمات سيدنا عمرو بن العاص حينما قال: أربعة لا أملهم أبدًا: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملتني، وامرأتي ما أحسنت عشرتي(7).
والانجرار خلف شهوة الاستهلاك والجري وراء الإكثار مما هو فوق الحاجة يوشك أن يوقع الناس في عدم الرضا بمداخيلهم التي لا تكفي متطلباتهم واحتياجاتهم الزائدة، فتجدهم يعيشون في ضنك دائم، وقد يقعون في القروض التي قد لا يستطيعون سدادها فيؤدي بهم الأمر إلى السجن، وفي أقل الأحوال لا تنتهي ديونهم ويعيشون في متاهة لا يخرجون منها.
وهنا يزدرون نعمة الله عليهم؛ إذ دائمًا ما يتطلعون إلى من هم أعلى منهم، ويرغبون أن يكونوا مثلهم، ويكلفون أنفسهم ما لا يطيقون؛ لذا قال النبي ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»(8).
وثقافة الاستهلاك والمبالغة فيها تضيِّع الحقوق؛ إذ إن المال لا يذهب في مصارفه المطلوبة على الوجه الأمثل، بل يبالغ صاحبها في إمتاع نفسه ويتسم بالأنانية المفرطة، وينسى الآخرين واحتياجاتهم البسيطة.
فالترشيد هو الحل، ولجم جماح النفس له ثمراته في الدنيا والآخرة، وتركها ورغباتها لن يُشبعها أبدًا، وستكون عدوًّا لك بين جنبيك.
والباحث عن الغنى يعرف أين يضع أمواله، وكيف يحافظ عليها لينفقها في مصارفها المثلى؛ إذ إنه قد تعب في جمعها، فلا يفرط فيها في وجوه غير مفيدة.
والقاعدة النبوية الذهبية تقول: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ(9) في المعيشة»؛ أي: ما افتقر من أنفق فيها قصدًا من غير إسراف ولا تقتير، ولهذا قيل: «صديق الرجل قصده، وعدوه سرفه»(10).
_____________________
(1) أخرجه أحمد في مسند عبد الله بن عمرو، ح(6708)، وحسَّن إسناده شعيب الأرنؤوط.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق، باب: مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ، ح(6435) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، ح(2351) من حديث أبي أمامة، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2/232): حسن لغيره.
(4) تفسير المنار، (8/ 343-344) باختصار.
(5) إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ص101.
(6) زاد المسير لابن الجوزي، (7/ 382-383).
(7) تاريخ دمشق لابن عساكر (46/183).
(8) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، ح(2963) من حديث أبي هريرة.
(9) أخرجه أحمد في مسند عبدالله بن مسعود، ح(4269)، وضعَّف إسناده الأرنؤوط.
(10) التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (2/682).