لطالما كانت المقاطعة الاقتصادية محل جدل بين الداعين إليها وبين «المتثاقفين» في عالمنا العربي، الذين زعموا أنها غير مجدية ومضرة بالاقتصادات الوطنية، غير أن الإحصاءات الرسمية لنحو 7 أشهر بعد عملية «طوفان الأقصى» والعدوان الصهيوني على قطاع غزة، قدم يقيناً لا لبس فيه على جدوى المقاطعة وأثرها الفعال ليس فقط على كيان الاحتلال والشركات الداعمة له، بل قدرتها على وقف «تسونامي» النزعة الاستهلاكية، والتحرر من قيود التبعية الاقتصادية.
وبالنظر إلى النتائج المترتبة على مقاطعة البضائع «الإسرائيلية» والأمريكية منذ 7 أكتوبر 2023م، يمكن تلخيص الأثر في مجالين، أحدهما اقتصادي والآخر اجتماعي، وكلاهما بات أوضح من أن ينكره إلا متصهين صريح، إذ لا أدل على الشيء من اعتراف المتأثر به والمتضرر منه، كما تكشف ذلك الإعلانات الرسمية للشركات المستهدفة بالمقاطعة، خاصة في «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ نوفمبر 2023م، شهدت الواردات الفلسطينية من «إسرائيل» انخفاضًا ملحوظًا بنسبة 16% مقارنةً بالشهر ذاته من عام 2022م، مع توقعات ببلوغ خسائر الكيان الصهيوني أكثر من 81 مليار دولار حتى نهاية عام 2024م نتيجة المقاطعة وارتفاع الإنفاق العسكري، بحسب تقرير صادر عن البنك المركزي بكيان الاحتلال.
ويشكل العجز حالياً في الموازنة الصهيونية العامة نحو 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي؛ أي نحو 117 مليار شيكل (31.6 مليار دولار)، بحسب ما أعلن ديوان المحاسبة العامة في وزارة المالية بكيان الاحتلال.
ويعاني فرع البناء باقتصاد كيان الاحتلال من شلل شبه تام، إذ تقدر خسائره باليوم الواحد 150 مليون شيكل (40.5 مليون دولار)، كما بلغت خسائر قطاع الزراعة نحو ملياري شيكل (540 مليون دولار) شهرياً، خاصة أن 75% من السلة الغذائية في كيان الاحتلال مصدرها الزراعة في مستوطنات غلاف غزة التي تضم أكثر من 1200 مزرعة، حيث يحتاج القطاع الزراعي نحو 10 آلاف عامل، بحسب ما أفاد إحصاء المجلس الأعلى للزراعة في كيان الاحتلال.
كما بلغت خسائر قطاع السياحة قرابة 4 مليارات شيكل (1.1 مليار دولار) في ظل الانخفاض المتواصل بالطلب على العروض السياحية من قبل الأجانب، بحسب الإحصاء ذاته.
ويعتبر قطاع التكنولوجيا المتقدمة في كيان الاحتلال الأكثر تراجعاً في حجم الاستثمارات جراء الحرب وحملات المقاطعة بنسبة بلغت 60%، ويتوقع أن يستمر التراجع في الاستثمار بهذا القطاع في حال تواصل القتال، حيث توقفت قيمة الاستثمارات عند 1.3 مليار دولار فقط، وهو أدنى رقم منذ عام 2017م.
وعلى المنوال ذاته، تكبدت الشركات الأمريكية، التي سبق لها إعلان دعم كيان الاحتلال، خسائر تاريخية، وانخفاضًا غير مسبوق في المبيعات، وعلى رأسها شركات مثل ماكدونالدز وستاربكس وكوكاكولا.
واستهدف المستهلكون في الدول ذات الغالبية المسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا شركات مثل كنتاكي وستاربكس وبيتزا هت، واستجابة لهذه المقاطعة، قررت مجموعتا جنرال أتلانتيك، وسي في إس، وقف صفقات بملايين الدولارات لبيع حصص في شركات تدير علامات الطعام الأمريكي السريع في كل من ماليزيا وإندونيسيا.
وقالت ميترا أدبيركاسا، شركة التجزئة الإندونيسية التي تملك نسبة 79% من شركة ماب بوغا أدبيركاسا صاحبة امتياز ستاربكس: إنها كانت تخطط لفتح 100 محل للطعام والشراب هذا العام، لكنها الآن تخطط لفتح نصف العدد بسبب المقاطعة.
وتواجه محلات ستاربكس في ماليزيا نفس المشكلة، فشركة بيرجايا فود التي تملك حق امتياز المقاهي الأمريكية سجلت خسائر في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023م، بـ42.6 مليون رينغت ماليزي، مقابل ربح صاف في العام السابق له بـ35.5 مليون رينغت.
وفي السياق، أعلنت شركة القهوة العملاقة ستاربكس عن خسائر بسبب تراجع الأرباح والإيرادات، مدفوعة بانخفاض في مبيعات متاجر الشركة نتيجة المقاطعة؛ ما أدى إلى تراجع حاد في سعر سهم الشركة بنحو 16%.
وأفاد القطاع الدولي لستاربكس، في بيان، بانخفاض في مبيعات المتجر بنسبة 6% مع انخفاض متوسط التذاكر والمعاملات.
بالنسبة للعام المالي 2024م، تتوقع ستاربكس الآن نمو الإيرادات بأرقام منخفضة، بانخفاض عن توقعاتها السابقة البالغة 7% إلى 10%.
ووفق نشطاء في حركة مقاطعة كيان الاحتلال (BDS)، فإن حملة المقاطعة للبضائع الداعمة للصهيونية ساهمت إلى الآن في إغلاق 4 فروع لسلسلة متاجر كارفور الفرنسية، في حين تدلّ بعض المؤشرات على احتمالية ارتفاع عدد الفروع المغلقة خلال الفترة المقبلة.
وتُظهر هذه الأرقام والإحصاءات الحديثة وغيرها أن المقاطعة لها تأثير ملموس على الاقتصاد «الإسرائيلي» وعلى بعض الشركات الأمريكية الكبرى، باعتراف تلك الشركات نفسها، وهو ما لم يعد بالإمكان ادعاء ما يناقضه.
ولاستمرارية المقاطعة أثر اجتماعي مصاحب لخسائر الاحتلال وداعميه الاقتصادية، وهو أثر لا يقل أهمية، ويتمثل في زيادة الوعي بأهمية المقاطعة ودورها في التأثير على الاحتلال، خاصة بين الأطفال والشباب، وهو ما وصفه الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، عبر منصة «إكس»، بأنه وعي تزايد بحجم غير مسبوق تاريخياً.
لذا، يرى الخبير الاقتصادي الأردني عامر الشوبكي أن سلاح المقاطعة بات فعالاً مع استمرار العدوان على قطاع غزة، مؤكداً، عبر «إكس»، أن المستقبل يبشر باستمرار تلك الفاعلية، لأن ثقافة المقاطعة أصبحت عالمية وقانونية حسب تقديره.
وعلى التوازي مع الجدوى الاقتصادية والاجتماعية البارزة لحملات المقاطعة، يتصاعد تعزيز الوعي الجماهيري مع قضية فلسطين بشكل استثنائي، كما تترسخ لدى الأجيال الجديدة، القدرة على مواجهة التبعية الاقتصادية، وإمكانية التحرر من النزعة الاستهلاكية المتنامية في عالمنا العربي والإسلامي.