لماذا أصبح جسد المرأة مرافقاً للإعلانات سواء كانت تروج لسلعة أو خدمة حتى لو كانت بعيدة عن اهتماماتها؟ وهل تمثل تلك الإعلانات واقع وقيم مجتمعاتنا؟
تتضاعف أهمية السؤال المطروح في عالم يزداد ترابطًا وتشابكًا، وتتسع فيه رقعة الثقافة الاستهلاكية لتشمل كل جوانب الحياة، وتُعد المرأة من أكثر الفئات تأثرًا بهذه الثقافة، التي تُعلي من شأن الاستهلاك وتجعله محور الحياة الاجتماعية والشخصية.
ومن هذا المنطلق، الذي بات سائداً في السوق، تحول جسد المرأة إلى أداة إغراء؛ وبالتالي أصبح هو في حد ذاته سلعة يتم تسويقها واستهلاكها في سياقات متعددة، من الإعلانات التجارية إلى صناعة الأزياء والتجميل وغيرها من المجالات!
وتُشير دراسات حديثة إلى أن النساء يُنفقن ما يقارب 20 تريليون دولار عالميًا على الاستهلاك، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 28 تريليونًا في السنوات الخمس المقبلة، كما تُظهر الأبحاث أن هذا الإنفاق لا يُلبي فقط الحاجات الأساسية، بل يتجاوزها إلى «الاستهلاك التفاخري» الذي يُعزز من تسليع جسد المرأة.
وفي هذا الإطار، تؤكد دراسة نشرتها مجلة «الخدمة الاجتماعية» عام 2022م، أن النمط الاستهلاكي يمثل خطرًا مضاعفًا على النساء لأنه يُسهم في تعزيز الصور النمطية الجنسية ويُقلل من قيمة المرأة إلى مظهرها الخارجي فقط، كما يُساهم في تعميق الفجوة بين الجنسين من خلال ترويج صورة المرأة كمستهلكة فقط.
وفي الإطار ذاته، أشارت نتائج دراسة نشرتها «المجلة العربية بحوث الإعلام والاتصال» عام 2018م، إلى أن مجلات المرأة والأسرة الخليجية لم تستطع التعبير عن التحديات الخطيرة التي تواجه النساء ولم تعبر عن قضاياهن وهمومهن بشكل متوازن، بل اهتمت بإبراز الصورة النمطية التي تهتم بمظهر المرأة وأناقتها، وركزت على تسليعها من خلال النظر إليها كجسد فقط.
ويدعم نتائج كلا الدراستين خلاصة دراسة أخرى أجرتها جامعة هارفارد عام 2021م، التي أفادت بأن 54% من النساء يشعرن بالقلق والاكتئاب بسبب الضغوط المجتمعية المتعلقة بالمظهر الجسدي، ما ينعكس سلبًا على صورتهن الذاتية وثقتهن بأنفسهن.
وفي آخر إحصاء أجرته عام 2023م، نوهت منظمة الصحة العالمية بأن 35% من النساء يعانين من اضطرابات الأكل مقارنة بـ15% من الرجال فقط، ما يسلط الضوء على حقيقة أن النساء أكثر عرضة للأخطار الصحية والنفسية الناتجة عن الثقافة الاستهلاكية التي تركز الأضواء على المظهر الجسدي.
ويهدف هذا التسليط إلى خلق نمط ثقافي لدى المستهلكين، بصرف النظر عن النمط السائد في المجتمعات المستهدفة بالترويج للسلعة أو الخدمة، وهو ما تؤكده أستاذة التسويق بكلية نانيانغ لإدارة الأعمال في سنغافورة، شارون نغ، مشيرة إلى أن عمليات التسويق هي أداة ترسيخ نمط الثقافة الاستهلاكية لدى الشباب بشكل عام، والفتيات بشكل خاص.
وبحسب إفادة أستاذة التسويق في «دليل كامبريدج لعلم النفس»، الصادر في عام 2020م، فإن الثقافة الاستهلاكية تؤدي إلى «تسليع» جسد المرأة من خلال الترويج لمعايير جمالية معينة وتعزيز استهلاك المنتجات التي تعد بتحقيق هذه المعايير.
ويُعتبر التحدي الأكبر إزاء ذلك هو كيفية تعزيز الوعي والتقدير للتنوع الجمالي ومقاومة الضغوط التي تفرضها الثقافة الاستهلاكية على النساء لتبني صورة مثالية محددة، بحسب شارون نغ.
فصورة المرأة في الإعلانات لا تشبه سوى نسبة صغيرة من نساء في مجتمعنا، وهنا يبرز دور مؤسساتنا التعليمية والثقافية في تعزيز التعليم والوعي حول تأثيرات الإعلانات والتسويق، وتشجيع النساء على تبني مفاهيم الجمال الشخصية والتنوع، ودعم الحركات التي تعمل على تغيير السرديات الثقافية حول جسد المرأة وقيمتها.
إن محاربة تسليع المرأة وتنميطها في مجاليّ الإعلام والإعلان ضرورة لتغيير صورة المرأة النمطية الأكثر رواجاً كـ«دمية» مُغرية، وذلك عبر حملات توعية خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، التي هي الأداة الرئيسة لترويج نمط الثقافة الاستهلاكية بالأساس.
فعملية تسليع المرأة وتحويلها إلى وسيلة ترويج لا ينطوي على إساءة لها ولكرامتها ولجسدها وشخصيتها فقط، بل يزيد من نسبة ضعفها النفسي أيضاً، وهو ما أكدته دراسة أعدتها الجامعة الأمريكية في بيروت، إذ أشارت إلى أن 60% من الفتيات اللبنانيات يعانين عدم الثقة في أنفسهن بسبب تَماهيهن مع صورة النساء في الإعلانات.
وإزاء ذلك، فإن الثقافة الاستهلاكية باتت ظاهرة معقدة تؤثر على المجتمع بأسره، وأصبح تأثيرها على المرأة يُمثل تحديًا خاصًا يتطلب الانتباه والتدخل، عبر تعزيز الوعي حول قضاياها وتشجيع نمط حياة يُركز على القيم الإنسانية بدلاً من الاستهلاك المفرط لتلبية هيمنة المظهر على الجوهر، وفقاً لما أوردته دراسة نشرها الباحث مازن هاشم في مجلة «الرشاد» عام 2023م.
وتشدد الدراسة على أهمية ارتكاز مواجهة النمط الاستهلاكي بين النساء من منظور إسلامي على إعلاء القيم الروحية والأخروية في حياتهن، فالرضا الحقيقي والسعادة لا تكمن في الممتلكات المادية فحسب، وهو ما لا يمكن ترسيخه إلا بتعزيز الوعي بأن الحياة الدنيا مجرد امتحان مؤقت، وأن الحقيقة الأبدية هي الحياة الآخرة، وهي الرسالة التي لطالما أكدتها الآيات القرآنية منذ فجر البعثة المحمدية، باعتبارها محور اختبار الإنسان في حياته الأولى.