لقد استطاع الإسلام أن يبعث في العالم حضارة مشرقة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، وقد أشرقت هذه الحضارة عبر التاريخ الإسلامي المجيد في كل جوانب الحياة إبداعاً، وبعثت روحاً من الخير والنماء والمحبة والعطاء للبشرية جمعاء.
فكيف استطاع الإسلام أن ينهض بهذه الأمة؟ وما أهم العوامل التي أسهمت في بناء الفكر الحضاري الإسلامي؟
أولاً: تهيئة البيئة للنهوض الحضاري:
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الإسلام في بيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية لا تسمح بازدهار حضارة تنبض بالحياة، حيث كانت الخصائص الأساسية لهذا المجتمع تتمثل في المنازعات والحرب الضروس، وندرة الموارد، والمناخ القاسي، والأرض القاحلة، والفقر المدقع، وكان كل هذا يقترن بحالات صارخة من عدم المساواة في الدخل والثروة، وكان التعليم ضئيلًا، فلم يكن لدى هذا المجتمع دراية فكرية أو مميزات مادية تسمح بالنهوض الحضاري، حتى جاء الإسلام، فأدى دورًا إيجابيا في اجتياز التحديات الصعبة، وإحراز التقدم السريع في جميع مجالات الحياة.
إن ما فعله الإسلام هو تنشيط كافة عوامل التطور، وتوجيهها توجيهاً إيجابياً، فقد أولى أقصى قدر من الاهتمام للإنسان، حيث حاول النهوض به أخلاقيًا وماديًا، وأصلح كافة المؤسسات التي كانت تؤثر فيهم، وجعل كل الأفراد متساوين بوصفهم مستخلفين في الأرض، مما أضفى عليهم جميعًا شعورًا بالكرامة والمساواة واحترام الذات، بغض النظر عن عرقهم أو جنسهم أو ثروتهم أو مكانتهم(1).
وفي هذا يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وبهذا تأسست البيئة التي يمكن على أساسها أن تقوم الحضارة معنوياً ومادياً.
ثانياً: دعوة الإسلام إلى التفكير المستقبلي والإعداد الحضاري والعمل العمراني:
دعا الإسلام إلى التفكير المستقبلي، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18)، فقد أمر الله تعالى بالنظر فيما قدمته كل نفس لغدها، وقد اختلف المفسرون في معنى الغد الوارد في الآية، حيث رأى بعضهم أن الغد هو يوم القيامة، وعلى هذا يكون المعنى: اتقوا الله وانظروا ما فعلتموه في الدنيا استعداداً ليوم القيامة، فإن هذا سبيل العقلاء، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ»(2).
ويرى الفريق الثاني من العلماء أن المقصود بالغد في الآية الكريمة هو: كل غدٍ، بما في ذلك يوم القيامة، فعلى كل مؤمن أن يهتم بكل غدٍ مقبل عليه(3)، كما أمر الله تعالى عباده أن يسعوا في الأرض إصلاحًا وتعميرًا، فقال: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61)، وقال أيضاً: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15).
والناظر في السيرة النبوية يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفكر في مستقبل الإسلام، ويخطط لإقامة دولته من خلال أخذ البيعة على الأنصار أن يقوموا بحماية الدعوة الإسلامية وحمايتها(4)، كما بيَّنت السيرة العديد من مظاهر التفكير والتخطيط المستقبلي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما في التخطيط للهجرة النبوية، وتأسيس المجتمع الجديد في المدينة من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والمعاهدة مع اليهود(5)، في إشارة إلى ضرورة التفكير المستقبلي والإعداد الحضاري، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل العمراني قائلاً: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة»(6).
ثالثاً: التقدم العلمي:
سعى الإسلام إلى تحقيق التقدم العلمي بين أفراده، مما أسهم في البناء الحضاري المتميز للمسلمين، حيث أمر بالقراءة من أجل تحصيل العلم قائلاً: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العَلَق)؛ والقراءة هنا قراءتان؛ قراءة للآيات الكونية المودعة في الطبيعة، وقراءة لآيات الله المنزَّلة؛ أي قراءة في كتاب الله المنظور، وقراءة في كتاب الله المسطور(7).
كما رفع الإسلام شأن العلماء، في قوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المُجَادلَة: 11)، وحث الناس على النظر في الآيات الإنسانية والكونية، وعاب على من لم ينتفع بها، قائلاً: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101)، وفي هذا تأكيد على سعي الإسلام إلى إفادة الناس من العلوم المختلفة.
ولهذا حرص المسلمون على دراسة العلوم المتنوعة؛ مما أدى إلى تحقيق تقدم فكري شامل، حيث شهد العالم نهضة فكرية بالغة الأهمية، ولا سيما عندما نهضت بغداد لتصبح مركزاً عالمياً للثروة والعلم.
وقد تطورت الدراسات القرآنية في هذه الفترة، والحديث والفقه، كما أضيفت مساهمات مبتكرة في مجال الرياضيات والعلوم والطب والفلسفة وعلم الكلام والأدب والفن، وهذا ما جعل العالم الإسلامي يتبوأ مركز الصدارة في هذه الميادين، طوال أربعة قرون تقريبًا، من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن الثاني عشر(8).
ولم يكتف المسلمون بما نبغوا فيه من علوم؛ وإنما توسعوا في التعرف على علوم الآخرين، واقتباس كل ما هو نافع منها، انطلاقًا من الدعوة الإسلامية إلى ذلك، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها»(9)، ومن هنا ظل المسلمون قرونًا عديدة يتقبلون المعلومات والأصول الفنية وألوان العرف والعادات من كل حدب وصوب، مع نبذ كل ما لم يكن من المستطاع التوفيق بينه وبين الأسلوب الإسلامي في التفكير والإحساس(10).
من خلال ما سبق يتبين أن الحرص الإسلامي على النبوغ العلمي في شتى مجالات الحياة، والقدرة على انتقاء ما هو نافع من الإنتاج الحضاري الإنساني؛ قد أسهم في تكوين الفكر الحضاري الإسلامي.
إن الحرص الإسلامي على تهيئة البيئة الصالحة للنمو الحضاري، ثم الدعوة إلى التفكير المستقبلي والعمل العمراني، ثم الحرص على النبوغ العلمي في شتى مجالات الحياة، والقدرة على انتقاء ما هو نافع من الإنتاج الحضاري الإنساني؛ قد أسهم في تكوين الفكر الحضاري الإسلامي.
________________________
(1) الحضارة الإسلامية- أسباب الانحطاط والحاجة إلى الإصلاح: محمد عمر شابرا، ترجمة محمد زهير السمهوري، ص 67-68.
(2) أخرجه الترمذي (2459)، وأحمد (17164).
(3) نظرية المذخورية – الفكر المستقبلي عند المسلمين: د. محمد أبو زيد الفقي، ص 33.
(4) السيرة النبوية: ابن هشام (1/ 442).
(5) راجع: ابن هشام، السيرة النبوية، (1/ 480).
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري، (2195) وأخرجه مسلم، (1553).
(7) الدين والحضارة: د. محمد عمارة، ص 25.
(8) الحضارة الإسلامية: محمد عمر شابرا، ص 78-79 باختصار.
(9) سنن الترمذي، (2687).
(10) العطاء الإسلامي في الحضارة الإنسانية: د. مصطفى رجب، ص 11.