ربما أثارت الطالبة الجامعية ذات العشرين ربيعاً استفزاز زميلاتها عندما نشرت على أحد مواقع التواصل الشبابية صوراً لبعض العطور من إحدى «الماركات» العالمية الشهيرة باهظة الثمن، وكتبت على الصور «هدية بسيطة من والدي».
والد الفتاة الذي يعمل في إحدى الدول الخليجية التي اشتهرت كونها مركزاً للتسوق و«البراندات» العالمية في المنطقة العربية اعتاد أن يعوض غيابه عن أبنائه بمثل هذه الهدايا الباهظة، اللافت في القصة ليس فقط المباهاة بنشر هذه المنتجات على صفحات مواقع التواصل، وإنما وصف الفتاة لهذه المنتجات بالبساطة، بينما هي تدرس في جامعة حكومية مجانية، وأغلبية صديقاتها ينتمين بشكل أو آخر للطبقة الكادحة، فما الدافع وراء هذه الحالة من المباهاة ومحاولة الظهور بصورة أثرياء الـ1% الذين يرون في هذه «البراندات» مجرد أشياء بسيطة؟
ربما تتسم القصة السابقة بشيء من الفجاجة في محاولة العبور الطبقي والسعي للانتماء للطبقة المخملية، لكن يبقى الهوس للانتماء للطبقات الثرية عبر ارتداء ملابس وعطور وساعات وحقائب يد تحمل ماركات عالمية، يثير العديد من الأسئلة عن الدوافع النفسية وراء هذا السلوك الذي لا يتوقف على الشباب الصغير في السن والتجربة، فعندما يقوم كاتب سياسي شهير لديه آلاف المتابعين بنشر صورة له معلقاً عليها أن الحذاء والحقيبة من «ماركة» كذا العالمية، فالأمر لا شك يستحق البحث للغوص وراء هذا الهوس بـ«الماركات» العالمية، وهل يقف وراءه مشكلات نفسية ما؟ أم هو حالة من الخضوع لثقافة السوق الرأسمالية التي تثمن الاستهلاك وتقدس «البراندات»؟
السعادة الرأسمالية
يهتم البعض بشراء المنتجات ذات العلامات التجارية المعروفة لأنهم يثقون في الخامات الممتازة التي تصنع منها هذه المنتجات، وبتلك التفاصيل الصغيرة المريحة المتعلقة بها، ويرون بشكل ما أنهم يستثمرون في منتج عالي الجودة حتى لو كان باهظ الثمن، والكثير من هؤلاء الأشخاص يتعمدون الشراء في موسم العروض والتخفيضات وليس في ذروة موسم التسوق.
ولكن البعض الآخر من الشباب الأثرياء الذين اعتادت أسرهم الشراء من تلك «البراندات» العالمية في أي وقت فهم بحكم العادة والتربية والثقافة كلما اشتهوا شيئاً اشتروه مهما كان سعره وبغض النظر عن مدى حاجتهم الحقيقية إليه، هذه الفئة من الشباب لا تمتلك أي مشروع كبير في الحياة، لا توجد قضايا حقيقية في حياتهم تتجاوز قضية المتعة الشخصية والمباهاة مع الأقران التي تشتبك مع حمى التسوق والاستهلاك.
تشترك فئة كبيرة من شباب الطبقة المتوسطة بجميع درجاتها مع فئة شباب الطبقة الثرية في غياب المشروع الكبير والسعي وراء متعة تسوق واستهلاك «البراندات» العالمية، لكنهم لا يمتلكون الثمن المطلوب فتجد بعضهم ينفق نصف راتبه أو أكثر على التسوق، وبعض الأبناء يمارسون ضغوطاً كبيرة على الآباء الذين لا تتحمل قدرتهم الشرائية التسوق من هذه «البراندات»، حتى الشباب من الطبقات الفقيرة ممن لا يمتلك قضايا كبرى تشغله تجده يسعى وراء «الماركات» المقلدة التي يقل سعرها كثيراً عن «الماركات» الأصلية لكنها تشبهها كثيراً وتحمل نفس «اللوجو» الخاص بها.
يمكننا القول: إن السعي للحصول على السعادة دافع رئيس في هذه القضية، فتجربة التسوق تحفز إفراز «الدوبامين» في المخ؛ ومن ثم الشعور بالسعادة، حتى إن البعض يلجأ للتسوق عند الشعور بالحزن، ووفقاً لدراسة نشرتها دورية «علم النفس والتسوق»، فإن التسوق يمنح شعوراً بالنشوة تشبه ما يشعر به مدمنو المخدرات! لكنها تماماً كالمخدرات سعادة مؤقتة ولحظية، وتفقد فاعليتها بالتكرار، كما أن الضغوط المترتبة على الضائقة المالية التي يشعر بها غير الأثرياء تفقد التسوق أثره في منح السعادة والبهجة.
السعي وراء السعادة من خلال تسوق المنتجات باهظة الثمن معادل موضوعي لغياب أفكار كبرى تشغل الشباب، فبدلاً من السعي وراء تحرر الأمة من الاحتلال الناعم لنحصل على مكانتنا الحقيقية بين الأمم، وهو الأمر الذي تخشاه الرأسمالية العالمية، وتسعى بكافة فنونها في الإغراء للتشويش عليه، وإبقاء الشباب في حالة من الاستغراق والسعي وراء بعض المتع المؤقتة كتسوق «البراندات».
بل الأمر يتجاوز ذلك، فهذا السعي هدف مصنوع، فللرأسمالية القدرة على صناعة الأهداف بما أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون هدف، فلنصنع له هدفاً يسعى وراءه ويحقق المتعة عندما يحقق بعضه، وهي في ذلك تمتلك أذرعاً عنكبوتية طويلة وحادة تلتف حول الشباب، فصناعة الهوس بـ«البراندات» يشترك فيها المشاهير والنجوم وبيوت الموضة وشركات التسويق التي تستخدم أدوات علم النفس، حتى إنهم يدرسون الأبحاث التي أجريت على مدمني المخدرات للاستفادة منها في إدمان التسوق والاستهلاك.
التقدير والثقة
الدافع النفسي الآخر وراء هوس وإدمان الشباب لتسوق المنتجات ذات الماركات العالمية هو السعي وراء التقدير من الأقران، كما فعلت الطالبة العشرينية التي سبقت الإشارة إليها، هذه هي الحقيقة الواضحة التي تأتي على لسان الشباب «نسعى للتميز»، ويكون ذلك عن طريق المباهاة أو المحاكاة لنيل التقدير المجتمعي وتقدير جماعة الرفاق، استهلاك منتجات ذات ماركات عالمية هو الطريق القصير لمنح هؤلاء الشباب الثقة في أنفسهم، تلك الثقة المستمدة من سعر ما يرتدونه أو يستخدمونه من منتجات عالمية، فكأن القيمة مستمدة من السعر، قيمة الإنسان نفسه مستمدة من سعر السلعة.
هذا التسليع للإنسان هو سبب ونتيجة في الوقت ذاته، فبسببه يلهث الشباب وراء «البراند»، حتى يكون له وجود مرئي في هذا العالم الذي يحكم على الإنسان بقيمة ما يقتنيه، وهو نتيجة لممارساته المتكررة لهذا النمط من الاستهلاك، وما يتبعه من شعور بالثقة والرضا، ومن ثم تعزز تشابكات عصبية في الدماغ تجعل من هذا التسليع ما يشبه الحقيقة الوجودية.
التعافي والتحرر
إذا كان المظهر هو بطاقة التعريف الأولى لهوية الإنسان دون حتى أن يتكلم، فمن العبث أن نقول: إنه أمر غير مهم، لكن أن يكون المظهر على رأس الغايات التي يسعى إليها الإنسان فهذا إهدار لكل معاني الحياة النبيلة، أن يشتري الشاب سلعة ما لجودتها وفي حدود قدرته الشرائية ودون إسراف فهذا أمر مباح، أما أن يكون مستعبداً لعلامات تجارية تديرها شركات عابرة للقارات تحكم العالم عبر بوابة الاقتصاد فهذا من أمراض القلوب التي ينبغي السعي للتعافي منها، وبوابة التحرر من هذا الاستعباد هو الوعي بقضايانا الكبرى وفي القلب منها قضية فلسطين.
هذا التحرر يمنح الشباب مساحات واسعة وعميقة من الحياة لم يكن يدرك وجودها من قبل، وهذا يمنحه ثقة بذاته وقدراته، ويرى نفسه بعيداً عن منظور التقزم الذي يجره لاكتساب الثقة والتقدير عبر الاستهلاك الفاحش.