قدمت الرأسمالية نفسها بوصفها قاطرة التقدم والرفاهية للمجتمعات المختلفة، واستطاعت إحراز النجاح رغم الانتقادات؛ إذ اعتمدت كنظام اقتصادي في جل البلدان الأوروبية، لكن زيف ادعاءاتها ما لبث أن تكشف منذ سبعينيات القرن التاسع عشر من خلال الركود الاقتصادي الذي استمر قرابة عقدين، الذي رافقه تحولات اجتماعية وثقافية، ثم توالت الأزمات الاقتصادية الحادة في القرن العشرين، بدءاً من أزمة «الكساد الكبير» عام 1929 – 1939م، وصولاً إلى الأزمة الآسيوية عام 1997م.
عبر الأدب عن هذه الأزمات وما أحدثته الرأسمالية من تغيرات على المستويين الفردي والاجتماعي في الغرب، والكاتب النرويجي بيورسون هو أول من انتقد الرأسمالية في روايته «إفلاس» عام 1875م، ثم تبعه مواطنه هنريك إبسن بعد عامين فقط من خلال مسرحيته «أعمدة المجتمع»، ثم توالت الأعمال الأدبية التي تناولت الرأسمالية وقدمت انتقادات جوهرية لها، ومن أشهرها مسرحيتا آثر ميلر «كلهم أبنائي»، و«موت بائع متجول»، ومسرحية «بعد كل هذه السنين» لسيدني بوكس، و«القرد الكثيف الشعر» ليوجين أونيل وغيرها من الأعمال.
ومن بين هذه الأعمال يمكن التوقف أمام عملين يتكاملان في تصوير تداعيات الرأسمالية؛ إذ يختص أولهما بتحليل شخصية الرأسمالي الذي تذوي قيمه وأخلاقه ومشاعره تحت وطأة الرغبة في جني الأرباح، وثانيهما يجسد شخصية العامل ضحية النظام الرأسمالي الذي ما أن يتقدم به العمر حتى يتم سحقه، ويُلقى به خارجًا لتنتهي به الحال منتحراً أو متسولاً قوته من مكتب رعاية العاطلين.
أعمدة المجتمع.. التماهي بين العام والخاص
يصنف الكاتب النرويجي هنريك إبسن (1828 – 1906م) كواحد من أهم نقاد الرأسمالية من الأدباء، فقد تناولها في مسرحيتين من أهم مسرحياته؛ ففي «بيت الدمية» صور إبسن أثر الرأسمالية على الفئات المجتمعية الأضعف من خلال امرأة شابة تدفعها ظروف مرض زوجها إلى الاقتراض بفائدة كبيرة مما يعرض حياتها الأسرية للخطر، وفي «أعمدة المجتمع» حطم إبسن الهالة التي أخذت ترتسم حول شخصية رجل الأعمال الذي تم تصويره على أنه رمز النجاح المزدوج الاجتماعي والأسري.
تدور «أعمدة المجتمع» حول رجل الأعمال كاستن بيرنك صاحب حوض بناء السفن الذي يتمتع بسمعة طيبة في مجتمعه، فمشروعاته يروج لها أنها لا تستهدف تحقيق منفعة ذاتية لشخصه، وإنما لتقدم المجتمع، وتترأس زوجته جمعية خيرية تستهدف نشر الفضيلة المجتمعية، وبهذه الكيفية غدا أحد قادة المجتمع الذين يؤدون دوراً في تحديد ما هو المقبول وما هو المرفوض مجتمعياً، لكن هذه الصورة التي رسمها رجل الأعمال لنفسه سرعان ما تبدى زيفها، فقد أدت الأكذوبة دورها في صنع أسطورته مرتين؛ الأولى حين اضطر في مقتبل حياته المهنية إلى الادعاء بسرقة ثروة الأسرة لتسكين ثائرة دائنيه، والثانية حين مارس الرذيلة مع امرأة وألقى بالتهمة على صديقه، ومن هاتين الكذبتين شيد الرجل نجاحاته العملية والعائلية، فهو كما يقول إبسن «صنيعة الكذب والتضليل» ولا شيء سواهما.
ومن خلال المسرحية، يبدو وعي إبسن بالصراع الطبقي بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، فهو يضع رئيس العمال في مواجهة رجل الأعمال، وتدور بينهما حوارات تكشف عن التناقض بين وجهتي النظر، فقد أدخل رجل الأعمال الآلات الحديثة في حوض السفن دون تدريب العمال على كيفية استعمالها، وتذرع بذلك للاستغناء عن ثلث العاملين، وحين عاتبه رئيس العمال أجابه:
«أنا لا أستهدف الربح، عليَّ أن أقدر حاجات المجتمع الذي أعيش فيه ومطالب المنشآت التي أديرها، إن التقدم يجب أن يأتي عن طريقي وإلا فلن يتقدم المجتمع أبداً»، وعلق رئيس العمال أنه مثله يبغي تقدم المجتمع لكنه يخشى على مستقبل العمال الذين ستحل الآلات (الحداثة) محلهم متسائلاً: «كيف يمكن للعلوم الحديثة وحليفها رأس المال أن تفرض الآلات الحديثة قبل أن يتعلم جيل بأسره كيفية استخدامها»، فأجابه رجل الأعمال: «إن على الضعيف فيهم أن يتنحى تاركًا مكانه للقوي»، كاشفاً بذلك عن داروينيته الكامنة التي طالما أخفاها تحت شعارات التقدم الكاذبة.
وفي هذا الحوار الذي صاغه إبسن منذ قرن ونصف قرن يستوقفنا أمران:
أولهما: كون الحداثة وسيلة بيد الأقوى لسحق الضعيف، فقد استخدمت لقهر العمال والمستضعفين داخل الغرب كما استخدمت لقهر الشعوب غير الأوروبية في الخارج.
وثانيهما: التماهي بين العام والخاص لدى رجل الأعمال الذي يتوهم أن مصلحته الذاتية الضيقة هي مصلحة المجتمع لا فارق بينهما، وهذا التصور هو نفس تصور السلطويين السياسيين في كل زمان الذين يتوهمون أن دولهم لن تقوم لها قائمة بدونهم.
وعي إبسن بصراع الطبقة العاملة مع رأس المال لم يجنح به نحو اعتناق الماركسية الثورية المتطرفة، وإنما جنح نحو الاعتدال، وتبنى نهجلاً أخلاقياً حلاً للصراع؛ فرجل الأعمال أرسل إحدى السفن إلى البحر دون صيانة كافية معرضاً إياها للغرق، وتصادف أن ابنه الصغير قد فر من المنزل وركب السفينة خلسة، وعندئذ أدرك رجل الأعمال أن قيمة الحياة الإنسانية تفوق قيمة الربح، وأنه لا بد من إحداث تغيير في الكيفية التي تدار بها مشروعاته على نحو يدمج القيم الأخلاقية مع الحداثة ورأس المال.
وفاة بائع متجول.. الرأسمالية تسحق أبناءها
وهي أحد أعمال الكاتب المسرحي الأمريكي اليساري آرثر ميلر (1915 – 2005م) ذائعة الصيت، ويتم تصنيفها كواحدة من أهم الأدبيات النقدية للرأسمالية، وفيها يرسم ميلر شخصية أحد ضحاياها الذين آمنوا بقيمها وساروا على هديها وأورثوها لأبنائهم لكنها سرعان ما سحقته عندما أصبح عاجزاً عن العمل، فلم يجد بداً سوى الانتحار.
الشخصية المحورية في المسرحية هي ويلي لومان، البائع المتجول الذي تجاوز الستين من عمره، أمضى منها 36 عاماً بائعاً جوالاً لمنتج تافه هو الجوارب النسائية لصالح إحدى الشركات، وكان عليه أن يقطع بسيارته قرابة 700 ميل في الرحلة الواحدة، وما إن تقدم به العمر حتى اعترته الهلاوس السمعية والبصرية وأعاقته عن العمل بكفاءة وتدهورت مبيعاته، فأوقفت الشركة صرف راتبه مكتفية بمنحه عمولة عن مبيعاته الضئيلة، ثم فصلته عن العمل حينما طلب عملاً بمقر الشركة لأنه لم يعد يقوى على الترحال.
وفي هذا المشهد المأساوي الذي جمع بين الرأسمالي الشاب والبائع لم يبد الأول أي تعاطف مع المسن الذي أمضى ثلث قرن يخدم والده وشركته الناشئة، «وألقى به كقشرة فاكهة» أُكلت وتم التخلص من بقاياها كما يقول العامل.
لقد كشف ميلر من خلال ذلك الحوار المؤثر بين الرجلين أن البيع والربح هما القيمتان المسيطرتان على سوق العمل، بل وعلى المجتمع الأمريكي بأسره، وأن هذه السوق غدت قاسية ولا إنسانية، فهي تستغل الإنسان بلا رحمة لآخر قطرة ثم تلقي به خارجاً.
المصير الذي لاقاه البائع المتجول جاء على الرغم من إيمانه بقيم الرأسمالية، وأهمها تحقيق الثراء من خلال المنظومة الرأسمالية وعبر أدواتها، لكنه لم يفطن إلى أن الكد والاجتهاد بل، والعلم ليس لهم دور كبير في المنظومة الرأسمالية، وإنما هو الحظ، يبدو ذلك من خلال الشخصيات الناجحة بالمسرحية كشقيقه الذي قادته المصادفة إلى القارة الأفريقية وهناك وجد الماس، أو رجل الأعمال الشاب الذي ورث شركة عن أبيه، أما الشخصيات الباقية فقد وقعت في فخ وعود النظام الرأسمالي البراقة ولم تحرز نجاحاً يذكر، وربما يكون ميلر قد أراد من وراء ذلك أن يومئ أن قيم الكد والاجتهاد ليس لهما مدخل في نجاح الرأسمالي.
الوجوه القبيحة للرأسمالية -كما رصدها ميلر- تطل علينا من خلال حوارات المسرحية المتوالية، ففي حوار دار بين البائع وزوجته يتحدث لومان عن الأقساط الكثيرة التي ينوء بها كاهله، فهناك قسط المنزل الذي استمر يسدد أقساطه 25 عاماً كاملة، وهناك قسط ثان للسيارة وثالث للثلاجة، وجميع هذه الأشياء تلفظ أنفاسها مع حلول آخر قسط، وفي هذا الصدد يقول لزوجته: «كم أتمنى ولو مرة واحدة في حياتي أن أمتلك شيئاً قبل أن يتلف، إنني في صراع دائم مع خرابة الخردة.. أتعلمين أنهم يضبطون هذه الأشياء بحيث لا تدفعين آخر قسط حتى تكون قد استهلكت تماماً».
وفي حوار آخر للزوجة مع ولديها، يبين ميلر أن التكريم والاحترام ينبغي أن يتوفرا لأي إنسان وليس لمن حاز معايير النجاح الرأسمالي، فتقول الزوجة: «لا تقل: إن ويلي لومان (البائع الجوال) رجل عظيم فلم يجن ثروة، ولم ينشر اسمه في الصحف، وهو ليس أعظم شخصية في التاريخ، لكنه إنسان وثمة شيء فظيع يحدث له، ويجب ألا نسمح له بالسقوط في قبره مثل كلب عجوز»، وبهذه الكلمات يكون ميلر قد كشف عن أسوأ عيوب الرأسمالية على الإطلاق وهي سحقها الإنسان وإهانته وتقديسها للقوة والثراء.
ومما سبق يتضح أن الأدب أدى دوراً في دحض أكاذيب الرأسمالية، وأنها لا تستهدف سوى تحقيق التقدم والازدهار، إذا إن هذا التقدم الموعود قد أتى على حساب الإنسان وطمأنينته النفسية.