لا يكاد يخلو سجال من ألفاظ الحق والحقوق، فالكل يبحث عن حق أو يطلب حقًّا أو يرى استحقاقًا، وفي خضم كل هذا ما تزال تشتد الغفلة عن رُمّانة كل ميزان ورأس كل إصلاح لا قوام لأمة الإسلام بغيره، وهو إجلال الحق (بالألف واللام) الذي بَعثَ الله تعالى به المصطفى عليه الصلاة والسلام، وتكبّد عليه الصلاة والسلام وأصحابه وسلف المسلمين ما تكبّدوا في سبيل خدمته وحفظه وإيصاله للعالمين، وشرّفنا الله تعالى بأن نكون من أهله، وأنعم علينا بالانتساب له ابتداء بغير عناء منا.
ولضعف استشعار المسلم «التلقائي» (أي: المولود مسلمًا جاهزًا) عِظَم هذه النعمة وقدرها وخطرها، نشأت أجيال من المسلمين الذين يتخذون الإسلام من المسلّمات، فيقلّدون في هيئة العبادة ما وجدوا عليه آباءهم، ويحفظون –إذا حفظوا- شيئًا من القرآن بوصفه نشاطًا دينيًّا من بين أنشطة الحياة الأخرى، ثم لا صلة بينهم وبين علوم الإسلام والعربية!
والحق أن الجهل في تصوّر الإسلام مجرّد قلة العلم أو انعدامه، بل هو أوّلًا الانشغال عن أولوية ما يجب العلم به وما تحصل به النجاة، ولو كان ذلك الانشغال بسبب تحصيل علوم أخرى تالية في الأولوية، مصداق قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 7)، وجاء في تفسير ابن كثير للآية، عن الحسن البصري أنه قال: «وَاللَّهِ لَبَلَغَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِه، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ!»، فكم من عالم ومهندس وطبيب وغيرهم من البارعين في علم من علوم الدنيا، ولعله لا يميز أركان الوضوء أو الصلاة وسننهما وواجباتهما، أو يرتكب فيهما أخطاء وهو يحسب أنه يؤدي ما عليه!
والأدهى أن كثيرًا من المسلمين حين يشتغلون بأي تخصص، لا يقدّمون كلام التخصص على كلام الدين فحسب، بل يتعاملون مع التخصص بوصفه منفصمًا عن الدين! فتجد الطبيب، مثلًا، لعله جاهل بما لا يسعه جهله بوصفه مسلمًا، ثم يضيف له الجهل بفقه ما يختص به كطبيب! وهكذا صار الدين للجامع والتخصص للجامعة، مع أن لفظة الدين لغة تعني ما يَدين له صاحبه؛ أي يخضع وينقاد، فيصبغ رؤيته للحياة في مختلف نواحي الوجود، التي تشمل ضمن ما تشمل حدود العلاقات ونهج المعاملات ومعالجة مختلف العلوم.
هكذا يكون تطبيق الدين الذي يعتقده صاحبه، أن يجعل حركته في الحياة طوعًا له، لا أن يجعل الدين هو طوع حركته، فيعيد تأويله وصياغته وقصقصته وفاقًا!
ويتحجج المتحججون بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» (رواه مسلم) للفصم بين علوم الدين وعلوم الدنيا خاصة، إن لم يكن بين الدين والدنيا عامة! والحق أن السياق الكامل للحديث كما ورد في صحيح مسلم: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: «لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ»، قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: «ما لِنَخْلِكُمْ؟»، قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
والمُستفاد من الموقف والمقولة ذكره أهل العلم في المُصنّفات المعتبرة، منها عنونةُ الإمام النووي للحديث في شرحه على مسلم: «وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ»، ومنها قول القرطبي في شرحه «المُفهِم»: «إثبات عصمته صلى الله عليه وسلم من الخطأ في التبليغ عن ربه»، ولم يرد في أي شرح وجيه ذلك الاستنتاج المُخترع بغير علم ولا بيّنة!
والتطبيق العملي الصحيح هو أنه يلزم المسلم المشتغل بأي مشغلة في الحياة؛ كالفلاحة أو الزراعة في سياق الحديث، أن يعلم حدود الله تعالى فيها أولًا، من حلال وحرام ومندوب ومكروه ومباح؛ ثم حيث أباح الشارع له مساحة رأي شخصي أن يرى ما يرى، وفي مساحة الرأي المباحة هذه يتفاوت الناس في علمهم بأمور دنياهم بحسب اختصاصهم فيها.
فالفلاح أقدر من الطبيب على تحديد نوع الثمر الأصلح للزراعة في كل تربة بحسبها، لكن إذا كان الطبيب هو صاحب الأرض وشاء أن يخالف رأي الفلاح المختص فله ذلك.
كذلك الطبيب الذي يعالج مشكلة نفسية ذات صلة بالشهوة الجنسية، مثلًا، لا بد له من الإلمام الراسخ بقدر من العلم الطبي البدني أو الحيوي كما النفسي، وذلك من حيث كونه طبيبًا، ثم من حيث كونه طبيبًا مسلمًا يعالج مريضًا مسلمًا، لا بد له من المعرفة الراسخة بما يتعلق إجمالًا بالتصور الشرعي للجنس والشهوة وأحكامهما، خاصة في قضايا ومستجدات العصر كالميول الشاذة أو إدمان الإباحيات، بما سيتطلب منه تَعَلُّم قَدْرٍ يتجاوز ما يتعلمه المسلم عادة لتطبيقه الشخصي، بهذا ينضبط في فهمه ميزان تقدير مراحل العلاج ومادّته، وغربلة ما يرجع إليه من موارد أجنبية، وما ينتقي من عِلمِها أو يَـذَرْ.
وإذن يتضح أن الجهل المقصود في هذا المقام ليس مجرد جهل بجزئية ما أو بضعة مواضيع يتم رفعه بقراءة بعض الكتب ومشاهدة بعض المرئيات التعليمية! بل الكلام على الجهل بالتصور الشرعي للوجود ككل، جهلًا مُقنّعًا بما ورثه صاحبه من تراكمات معرفية مشوهة على مدى سنوات التنشئة وتَفتّح مداركه على الوجود، ولا سبيل لرفع ذلك الجهل إلا بالتعلم الجاد لـ«علوم الاضطرار» قبل أي نوع آخر من العلوم، وهذا التعبير مستوحى مما جاء في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية، الذي ذكر في فصل «ضرورة الشرع بالنسبة لحياة الإنسان»: «الْإِنْسَانَ مُضْطَرٌّ إلَى الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ بَيْنَ حَرَكَتَيْنِ: حَرَكَةٌ يَجْلِبُ بِهَا مَا يَنْفَعُهُ، وَحَرَكَةٌ يَدْفَعُ بِهَا مَا يَضُرُّهُ. وَالشَّرْعُ هُوَ النُّورُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ.. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ بِالْحِسِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ، فَإِنَّ الْحِمَارَ وَالْجَمَلَ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الشَّعِيرِ وَالتُّرَابِ بَلْ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ فَاعِلَهَا فِي مَعَاشِهِ وَمُعَادِهِ كَنَفْعِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمْ يَهْتَدِ الْعَقْلُ إلَى تَفَاصِيلِ النَّافِعِ وَالضَّارِّ فِي الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ».
تأمل في عبارة «الإنسان مُضطر للشّرع»؛ أي إلى معرفته، وتجد في مادة «ضرر» في «لسان العرب»: «الِاضْطِرَارُ: الِاحْتِيَاجُ إِلَى الشَّيْءِ؛ واضْطُرَّ إِلَى الشَّيْءِ أَيْ أُلْجِئَ إِلَيْهِ». فانظر إلى دقة تخيّر لفظة الاضطرار في ذلك الموضع، وكم إنها تبرر انتشار التوهان والحيرة بين أجيال المسلمين اليوم في إسلام حياتهم وحياة إسلامهم، لافتقارهم لتلبية ذلك الاحتياج الاضطراري كما تُلبّى الاحتياجات الأخرى على مدى سنوات النشأة، فإذا بالأجساد تكبر والأعمار تتقدم، فيستقيم للصغير شأنه حين يكبر في حاجات الدنيا والمعاش الحسي، وتظل حركته متخبطة طفولية في جوانب إقامة الوجود ونهج حياته ككل على أمر الله تعالى، لأنه لم يُحكِم فهمه بعد، ولا استقام تصوره الناضج له.
وأما مسألة الأخذ عن الآخرين والانتفاع بعلومهم، فالوسط فيها أن نرسخ أوّلًا فيما جاءَنا من الحقّ الناصع، قبل النظر فيما لدى الغير مما سيكون قطعًا مَشوبًا بالباطل وتخليطات عارية عن نور الله تعالى وهَدْي شرعه، بهذا نكون قادرين على غربلتها بحقّها، والانتفاع بما يستحق الانتفاع به على وجهه، فشتّان بين أن تكون الحكمة ضالّة المؤمن وأن تكون ضَلالَه! كُن مؤمنًا أولًا ثم انشُد الحكمة، لكن أنّى تنشد حكمة بغير إيمان يُبيّن لك أية حكمة تنشُد؟ وأين تنشدها؟ وكيف تنشدها؟!