النية أو العمل هو نشاط ديني واجتماعي، وتقوية لروابط الأخوّة بين المسلمين الصينيين.
فمنذ أن قدم المسلمون إلى الصين، واستقروا بها، كانت أعدادهم قليلة بالنسبة لأهل الصين، ولم تكن بين الجاليات الإسلامية في المدن المختلفة آنذاك اتصالات دائمة، لذلك واجهوا مهمة صعبة في محاولة الحفاظ على هويتهم الإسلامية، خاصة أن بلاد الصين كانت بالنسبة لهم بلادًا غريبة، كما كانت الثقافة الكونفوشيوسية هي السائدة في ذلك الوقت، ولذلك حاول المسلمون تربية أبنائهم على الشريعة الإسلامية؛ كي يستطيعوا أن يعيشوا في تلك البلاد، ويحافظوا على ثقافتهم الإسلامية التقليدية.
ومع مرور الزمان، استطاع المسلمون في الصين الحفاظ على أنفسهم وشريعتهم من أي شوائب أو تأثيرات قد تعكر صفو هذا الدين القويم، فبقي لليوم صامداً رغم تغير الأزمان ودوران الأفلاك عليه، بل استطاع أن يحجز لنفسه مكاناً رئيساً بين أديان الصين الكبرى.
ولم يكن هذا ليحدث مصادفة، بل كان للمسلمين الصينيين دور بارز في هذا من خلال ما سنّوه لنفسهم من عادات وأنشطة اجتماعية ودينية، كان هدفها هو الحفاظ على هوية هذا الدين، ومد جسور الترابط والتواصل بينهم وبين بعضهم بعضاً.
ومن أبرز تلك الأنشطة الاجتماعية «النية» أو «العمل»، وهي عبارة عن أنشطة دينية واجتماعية منضبطة، مارسها المسلمون الصينيون في بيوتهم ومساجدهم بهدف لمّ الشمل، والوعظ وقراءة القرآن وإطعام الطعام وغيرها من الأعمال الصالحة.
وقد اشتق المسلمون الصينيون هذا الاسم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى..»؛ لذلك سماها المسلمون العمل أو النية، وهي تنطق عندهم بنفس نطقها العربي «أه ما لي»، «ناي تي».
أنشطة النية أو العمل
اعتاد المسلمون الصينيون في مناطق الصين المختلفة انتهاز فرصة حدوث مناسبة معينة، كعقد الخطبة، أو ولادة مولود أو نجاح الأبناء في الدراسة أو العمل، أو الانتقال إلى منزل جديد أو الشفاء من المرض أو عودة مسافر وغيرها، لعقد مثل هذا النشاط.
حيث تتم دعوة الأئمة والعلماء والأقارب والأصدقاء والجيران، ويكون ذلك غالباً يوم الجمعة حتى يتسنى للجميع الحضور، ثم تبدأ مراسم النية أو العمل.
طقوس ومراسم النية أو العمل
تبدأ هذه الأنشطة أولاً بقراءة القرآن الكريم، حيث يتولى أكبر الناس سناً وأكثرهم علماً قراءة القرآن، ثم يلي ذلك خطبة وعظ عن الأخوة والتآلف والتراحم بين المسلمين وحفظ المال والدين، وفضل الأعمال الصالحة والإنفاق على الفقراء والمساكين، وإطعام الطعام، وغيرها.
ثم يقوم بعدها صاحب الدعوة بتوزيع أجزاء القرآن الكريم على الحضور الذين يجلسون في صفوف أو دوائر، فيتلو كل واحد منهم جزءاً من القرآن الكريم حتى ينتهي منه.
بعدها يُقدم الطعام الذي عادة ما يحتوي على اللحم سواء لحم البقر أو الغنم أو حتى الدجاج، حسب الظروف المادية للمضيف، والأرز والخضراوات والمعكرونة والخبز المقلي بالزيت، ثم تقدم بعدها المخبوزات والشاي الأخضر.
بعدها يقوم الإمام بالدعاء لصاحب البيت أو المضيف بالبركة في المال والأولاد وسعة الرزق والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ويؤمن الحاضرون خلفه.
منافع دينية ودنيوية
أحياناً إذا كان الداعي لهذه المناسبات من ذوي الثراء أو من ميسوري الحال، فإنه يقوم بتوزيع المال على الحاضرين بنية الصدقة وزيادة في إكرام الضيوف، ولا يحق لأحد من الحاضرين رفض هذا المال أو رده.
في عام 2019م، دُعيت لحضور حفل النية أو العمل من قبل أحد الأئمة في مدينة قو يوان بمنطقة نينغشيا شمال غرب الصين، وكان والد أحد طلابنا بقسم اللغة العربية، وقد بدأت هذه الأنشطة بعد صلاة الجمعة حتى صلاة العصر، ختمنا خلالها القرآن الكريم قراءة، واستمعنا لخطبة الوعظ، ثم تناولنا الطعام، ثم طاف علينا الإمام المضيف يوزع المال، فأعطى كل ضيف مائة يوان صيني، ولما رفضت أخذها أخبروني أن هذا لا يصح، فهذه عادة عندهم ورفض أخذ المال يعد تصرفاً غير لائق في مثل هذه المناسبات.
والحقيقة أن الزيارات في مجتمع المسلمين الصينيين كانت فرصة ذهبية للدعوة الإسلامية، والتربية الإسلامية في مثل هذا المجتمع الكبير، فكان وما يزال أئمة المساجد يستخدمونها لغرضٍ تربوي إسلامي رفيع؛ لأن في هذه الزيارات ما يسمح للزائر والمضيف أن يتكلما عن غير المسموح به في غير هذه المناسبات من المكان والزمان الآخرين.
فكلما صار لأحد المسلمين مناسبة من المناسبات التي ذكرت سابقًا، يأتي إليه إمام المسجد مع بعض المسلمين يزورونه، ويقرؤون عنده القرآن الكريم، ويصلّون على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقدمون له وللحضور النصح، ويدعون له ولعامة المسلمين بما يصلحه في الدنيا والآخرة.
وبهذا الفعل المبارك، تقوى العلاقات بين المسلمين، ويستفيد الجميع بالعلم النافع، وتوحد كلمة المسلمين.