إنها رسالة الرسول الخاتم ﷺ، وإمام الأنبياء والمرسلين، ورسول رب العالمين، تتضمّن كلَّ ما يحتاجُ إليه أبناء الإنسانية من أمور الدين والدنيا والآخرة على وجهٍ يَكفلُ المصلحة والصلاح للناس جميعاً، ويُؤمّن لهم السعادة الحقيقية إذا هم التزموا بها، وعملوا على تحقيقها، فهي تَنْظُمُ أمورَ العقيدة والأخلاق والعبادات، والأسرةِ، والمعاملات المالية، والقضاء والعقوبات، وما إلى ذلك.
قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89).
ولقد بيَّن الشيخ العلامة ابن القيم معنى الشمول في رسالة الإسلام بياناً شافياً، فقال: وعموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كلّ ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم، وأعمالهم، وأنّه لم يحوج إلى أحدٍ بعده، وإنما حاجاتهم إلى مَنْ يبلّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان، لا يتطرّق إليهما تخصيصٌ: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعمومٌ بالنسبة إلى كلّ ما يحتاجُ إليه مَنْ بعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافيةٌ شافيةٌ عامةٌ، لا تُحْوِجُ إلى سواها، ولا يتمّ الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا، وهذا وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلّب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه عِلْماً، وعلّمهم كلَّ شيءٍ حتى آداب التخلّي، وآداب الجِماع، والنوم، والقيام، والقعود، والأكل والشرب، وبالجملة جاءهم بخيري الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم إلى أحد سواه.
فالشمول من الخصائص التي تميّزت بها رسالة الإسلام عن كلِّ ما عرفه الناسُ من الأديان والفلسفات والمذاهب، وهذا الشمول تمثّل فيما يلي:
أ- اشتملت على ما في تعاليم النبوّات السابقة من مبادئ جوهرية ثابتة في العقيدة والأخلاق، ونسخت ما كان فيها من تشريعات مؤقتة، وأحكام عـارضة.
ب- تناولت الشريعةُ فيها حياةَ الإنسـان من جميع أطرافهـا، ومن كلّ جوانب نشاطاتها الاقتصاديـة والسياسيـة والاجتماعيـة والعقليـة والروحيـة والخلقية.. إلخ.
جـ- وضعتِ المبادئ الكليّة، والقواعدَ الأساسية فيما يتطوّر فيها ويتحوّر بتغير الزمان والمكان، ووضعتْ الأحكامَ التفصيلية والقوانينَ الجزائية فيما لا يتطوّر ولا يتحوّر بتغير الزمان والمكان، وهذا هو الكمال والشمول الذي تميّزت به الشريعة الإسلامية، وأشارت إليه الآيات القرآنية.
ومع هذا الشمول، تبرزُ خاصية المرونة، التي تكسب الرسالة المحمدية عنصرَ الاستجابة لكلّ المشكلات جميعاً، فلا تقفُ متخلفةً عن ركب الحياة الناشطة المتحركة، بل هي قادرةٌ على احتواء الواقع البشري كله مهما امتدّ الزمنُ، أو تبدّلت الأحوال والظروف.
إنَّ الإسلامَ لا يقفُ في سبيل التقدّم العلمي والنهوض الحضاري، بل إنّ الإسلامَ هو الذي بعثَ المسلمين لينشئوا حركةً علميةً ضخمةً، كان من أهم آثارِها المنهجُ التجريبي في البحث العلمي، التي تعلمته أوروبا على يد المسلمين في الأندلس والشمال الأفريقي وصقلية وجنوب إيطاليا الإسلامي، الذي قامت عليها نهضتُها العلمية الحاضرة، والإسلامُ هو الذي أنشأ حضارةً تاريخيةً ضخمةً أنارت العالمَ كلّه وقتَ أنْ كانت أوروبا تعيش في ظلام القرون الوسطى، المظلمة بالنسبة إليها، المزدهرة بالنسبة للإسلام.
وكان أروعَ ما في هذه الحضارةِ أنّها تعمُرُ الأرضَ بأقصى ما في طاقة البشر من قدرةٍ على التعمير في جميع الميادين، وجميع الاتجاهات، ولكن دونَ أن تقطعَ ما بين الحياة الدنيا والآخرة، كما تصنعُ تلك الجاهلية، فتدفع الناسَ دفعاً إلى التكالب المزري على شهوات الأرض، وعلى تحطيم كل القيم الفاضلة في سبيل ذلك المتاع الرخيص، وما ينشأ عن ذلك حتماً من فساد الفطر، وفساد الأخلاق، والصراع الرهيب الذي يهدّد الأرضَ بالدمار.
هكذا، فإن الإسلامَ يُنشئ حضارةً من نوع آخر، إنها أثمن وأعلى حضارة تعمر الأرض، ولكنّها تعْمُرُها بمقتضى المنهج الرباني، فلا تحرمُ الناسَ من المتاع الطيب، ولكنّها تحافظُ على كيانهم الإنساني، وهم يتناولون ذلك المتاع، ولا تهبِطُ بهم إلى مستوى الحيوان، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (الأعراف: 32)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد: 12).