يهدف المشروع الإسلامي إلى أن يعم العالم 3 قيم أساسية، هي: الحرية، والعدل، والسلام.
فالحرية هتف بها القرآن من قديم الزمان، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
وآيات القرآن الكريم التي دوت في جنبات الوجود معلنة الحرية فريضة إسلامية كثيرة شهيرة، فرب العالمين سبحانه وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم حاملاً لواء الحرية لكل الإنسانية، ومحارباً للظلم في كل أقطار الدنيا، ورافعاً راية العدل بين البشر جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، ومن روائع هذا الدين أنه يحارب الظالم ويقف مع المظلوم مهما كان دينه.
وقد أفتى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري أن للمسلم أن يدافع عن غير المسلم، حتى وإن كان الجاني مسلماً، فإن قُتل فهو شهيد، فهل رأت الدنيا كلها ديناً يحارب أبناءه الظالمين من أجل أعدائه المظلومين؟! وليس في الإسلام ما يعرف بمعاداة السامية، أو معاداة الإسلام، فمعاداة السامية إرهاب فكري يمارسه الغرب ضد البشر جميعاً حتى يومنا هذا، ولن يذوق العالم طعم الحرية إلا في ظلال هذا الدين الحنيف، فما منهج الإصلاح السياسي في هذا الدين؟
السياسة
يقول ابن مفلح في كتابه «الفروع»: «وأكثر السلاطين يعملون بأهوائهم وآرائهم، لا بالعلم، ويسمون ذلك سياسة، والسياسة هي الشريعة».
وفي قصة الحضارة يقول ول ديورانت: «السياسة فن المواءمة بين أهداف الأقليات المتضاربة، وصالح الجماعة».
ومن أفضل ما قيل في تعريف السياسة ما ذهب إليه ابن عقيل في كتابه «الفنون»: «السياسة ما كان فعلاً يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول، ولا نزل به وحي، فأي طريق استخرج به العدل فهو من الدين».
فالإسلام يفتح الباب واسعاً أمام كل اجتهاد وابتكار في عالم الأفكار، ويوجب على المسلمين الأخذ بأحسن وأفضل ما توصل إليه العقل البشري في الدنيا كلها، بشرط واحد فقط؛ هو ألا يتعارض مع الدين، وهذا الشرط هو ما كان ينقص تعريف ابن عقيل للسياسة.
وللإصلاح السياسي في الإسلام 5 أركان أو أسس، هي: الشورى، الفصل بين السلطات، التدرج في الخطوات، البعد عن مواطن الخلاف، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أولاً: الشورى:
الشورى سر نهضة الأمم وقوتها وازدهارها، وما هوى بالأمم، وذهب بالدول إلى أسفل سافلين إلا الاستبداد وحكم الفرد، وما ارتقى بالدول ورفع شأنها إلا الشورى وتداول السلطة.
والشورى في الإسلام فريضة لازمة، يجب على الأمة القيام بها، ويحرم التفريط فيها، في كل زمان ومكان، في الدول المتحضرة والمتخلفة على السواء، وزعم البعض أن هناك أمماً متخلفة، لا تصلح للتجربة الديمقراطية، زعم فاسد، لا يهدف إلا لتبرير الاستبداد والدكتاتورية وحكم الفرد، فقد نزل قول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159) عقب هزيمة «أُحد»، وكان من أحد أسباب الهزيمة إعمال مبدأ الشورى في الأمة! وبالرغم من ذلك نزل الأمر الإلهي بوجوب إعمال الشورى حتى وإن أدت إلى ما لا يُحمد عقباه.
ثانياً: الفصل بين السلطات:
«الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها»، وقد أثبتت التجربة أن الفصل بين السلطات ضرورة لازمة، وأمر لا بد منه حتى تتمكن أجهزة ومؤسسات الدولة من القيام بالدور المطلوب منها على أتم وجه، وعدم الفصل بين السلطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، يؤدي إلى تغول السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية، وهذا هو رأس الفساد، وعدم استقلال القضاء يعني الظلم، وضياع الحقوق، وتكون حياة البشر كحياة الحيوان في الغاب، يأكل القوي الضعيف بلا رحمة؛ مما يؤدي إلى الدمار الشامل في كل مجالات الحياة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «رسالة الحسبة»: الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يقال: «الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة».
ولما سمع عمرو بن العاص المستوردَ بن شدادَ يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس»، قال له عمرو: أبصر ما تقول؟ فقال المستورد: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو: لئن قلت ذلك؛ إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك. (رواه مسلم).
ثالثاً: التدرج في الخطوات:
وهذا ما سار عليه القرآن الكريم في كثير الأمور، منها تحريم الخمر مثلاً، ولا بد في الإصلاح السياسي وغيره من مجالات الإصلاح من السير برفق، فما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه، فلا بد في الإصلاح من التروّي والتمهل والترفق والتعقل، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
رابعاً: البعد عن مواطن الخلاف:
الخلاف فُرقة، والفرقة عذاب ودمار، والإسلام أحرص ما يكون على وحدة الصف، ولمّ الشمل، وجمع الكلمة، قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
وكان الصحابة أحرص الناس على وحدة الكلمة، والبعد عن مواطن الخلاف، ويدل على ذلك ما أخرجه البخاريّ عن عَلِيٍّ رضي الله عنه، قال: «اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ الِاخْتِلَافَ حَتَّى يَكُونَ لِلنَّاسِ جَمَاعَةٌ، أَوْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي».
فالمصلح يتحسس مواضع الاتفاق فيسعى إليها، ويسوق الجماهير إلى لزومها، والتمسك بها، ويفر من مواطن الخلاف فراره من المجذوم، بل فراره من أسد جائع، حتى يتمكن من السير بالأمة إلى ما يقيم أمرها، ويصلح شأنها، ويرتقي بكل أحوالها.
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا أساس الإصلاح الذي يشجع الفضيلة، ويحارب الرذيلة، ويقوّم الخطأ، ويربي الوازع الديني داخل النفس الإنسانية، ليجعل منها حارساً أميناً على قيم الإسلام وتعاليم الإيمان، عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعونه ولا يستجيب لكم» (رواه أحمد، والترمذي).