لا يخطئ المتأمل للمسيرة الحضارية للأمة تلك الروح الجامعة التي تسري في أوصالها، وتمنحها تميزها وخصوصيتها، نعني روح التوحيد الإسلامي الخالص، وهي تصوغ بناء الفرد والجماعة والأمة على السواء، عبر الزمان والمكان على حد سواء؛ ولذا، فإننا حين نستعرض شيئاً من منجزات الحضارة الإسلامية لا نحسن فهم دواعيها وعطاياها إلا باستبطان تلك الروح الناطقة والمعبرة؛ التي شكلت دافعاً للاعتزاز بالدور الحضاري الرسالي الذي نهضت به الأمة الناشئة.
لقد ترك التوحيد أثره على الفكر الأوروبي منذ وقت مبكر، ففي العصر الأموي ظهر بين رجال اللاهوت الكنسي البيزنطي من ينكر عبادة الصور أو الأيقونات، وهو اتجاه قاده الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث (675 – 741م)، وكان لسانه طليقاً باللغة العربية، فلا عجب أن عظم التأثير الإسلامي عليه، وشحذ همته حتى خاض حرباً دامية ضد من يقدسون الصور والآثار الكنسية؛ مما أدى إلى تداعيات زادت من الانقسام بين الكنيسة البيزنطية الأرثوذكسية، وكنيسة روما الكاثوليكية.
كان للتوحيد مظهره في استقلال القضاء وقوة العلماء فأصول التشريع لله وحده
وسيتطور الأمر في الغرب الأوروبي حتى تظهر دعوات تنكر وساطة القساوسة بين الله والناس، وانفرادهم بتفسير الأناجيل، مما مهد لظهور البروتستانتية الغربية فيما بعد، ثم فصل الدين عن الدولة نتيجة عوامل شتى.
وفي المجال الحضاري، ينبغي الانتباه إلى تأثير المشاريع التكوينية الأولى للدولة الإسلامية، لأنها أصدق في التعبير عن روحها، فقد شكل مشروع الدولة الأولى مستودعاً لتجارب حضارية ملهمة، منها تجربة الانفتاح تجاه الآخر للإفادة مما لديه من موروث إنساني متراكم، وقد بدأ ذلك في عصر النبوة باقتباس بعض وسائل الحرب مثل حفر الخندق.
وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تم اقتباس الدواوين في إدارة الدولة، والملحوظ هنا أن الأخذ كان بقدر الحاجة، وفيما لا يمس هوية الأمة، وأنه كان توظيفاً لأدوات ووسائل ضمن منظومة إسلامية خالصة، وحين افتقدت الأمة هذه الضوابط أساء الأخذ أكثر مما أفاد، كما حدث في ترجمة التراث الفكري للأمم المخالفة، فأسهمت ترجمات الفكر اليوناني بعد قليل في الانشغال بمسائل فلسفية وكلامية أصبح كثير منها عبئاً على التصورات الإسلامية.
التشريع الإسلامي لم يكن غائباً عن التأثير في الفكر الأوروبي بعصر النهضة
وكان للتوحيد مظهره في استقلال القضاء، وتنامي قوة القضاة والعلماء، فأصول التشريع لله وحده، حيث لا يستأثر به فرد أو جماعة تميل به لتحقيق مصالحها، بل كان من القضاة والعلماء من يفرضون إرادة الحق على السلاطين والأمراء، ولم يكن التشريع الإسلامي غائباً عن التأثير في الفكر الأوروبي، فلما عاد نابليون إلى فرنسا عام 1801م من غزوه مصر أمر بترجمة أحد كتب الفقه المالكي الذي حمله معه إلى اللغة الفرنسية؛ مما كان نواة القانون المدني الفرنسي، ومن هنا جاء التشابه بين القانون الفرنسي والفقه المالكي.
نابليون ترجم كتابًا للفقه المالكي أخذه من مصر ليكون نواة للقانون الفرنسي
ويتعمق بعض الباحثين في الأمر ليقول: إن بدايته كانت على يد القس جربير (البابا سلفستر الثاني فيما بعد) الذي تلقى العلم على أيدي المسلمين في الأندلس وشمال أفريقيا، وأتقن العربية، وتعرف على الفقه المالكي جيداً، وحمل معه بعض كتبه، فلما عاد إلى بلاده وتولى البابوية كتب لهم ما أسماه القانون الروماني الجديد، ولم يفصح عن أصله الإسلامي.
الروح التوحيدية
وشكلت الروح التوحيدية لبَّ فنون العمارة الإسلامية، التي تعانق مآذن مساجدها السماء لتصل بها قلوب أهل الأرض، وتجمع قبابها المؤمنين تحتها في أخوّة حانية، وتتخذ عمارة البلدان فيها من المسجد قلبها النابض، فتتفرع شرايينه شوارع وأزقة، لا يحول بينها وبين القلب حائل، وبينما كانت شوارع قرطبة تضاء بالقناديل ليلاً كانت المدن الأوروبية تغط في سكون القبور وظلمتها، فلما انهارت قيم الحضارة الإسلامية في عصرنا أصبحت مدننا مزقاً من نماذج حضارية شتى، تعزز غربتنا، وتغتال روحانية مدينتنا.
ولما أتيح للغرب الأوروبي أن يقترب من المجتمع الإسلامي ونظمه السياسية إبان الحروب الصليبية؛ تركت القيم الإسلامية أثرها عليه، فغزا صلاح الدين -بما اشتهر عنه من تسامح وعفو- قلوب معاصريه، وظهر فيهم مثل فريدريك الثاني، إمبراطور الغرب الذي نشأ في صقلية، وتعرف على حضارة المسلمين التي خلفوها أثناء حكمهم لها، وأتقن اللغة العربية ضمن ما أتقن من لغات عصره، واشتد إعجابه بالمسلمين حتى اتهمه خصومه من المنافسين ورجال الدين بأنه نصف مسلم ونصف مسيحي.
وما كادت الحروب الصليبية تضع أوزارها حتى كان الغرب الأوروبي يبدأ معالم صحوته، فتتقلص طبقة أقنان الأرض، وتزداد الحريات السياسية، وتتعاظم الجرأة على البابوية وسلطان الكنيسة، وتزداد الانتقادات ضد استبداد الأباطرة، وما زالت تلك التأثيرات تتعاظم، ضمن عوامل أخرى، حتى أنتجت عصر النهضة الأوروبية.
شوارع قرطبة كانت تضاء بالقناديل بينما كانت المدن الأوروبية تغط في الظلام
كانت المشاركة الشعبية للمنظومة السياسية الإسلامية في إدارة أمور الأمة، وتحمل تبعاتها، تشكل نموذجاً أخاذاً لآخرين، جديراً بالاحتذاء، ففي الوقت الذي كان الأباطرة والكنائس الغربية يبدعون في وسائل ابتزاز الرعية، وفرض الضرائب عليهم، وتسخير آلاف العبيد في زراعة أراضي الكنيسة الواسعة؛ كان كثير من أثرياء المسلمين يبادرون إلى تخصيص الأوقاف للرعاية الاجتماعية في صورها المتعددة، وبادر الحكام والأمراء إلى دعمه، وعظمت الأوقاف التي خصصها نور الدين محمود، وصلاح الدين وأقاربه من الأمراء والأميرات، واتجه كثير منها إلى الجوانب التعليمية لمواجهة نفوذ المذهب الشيعي الذي حكم مصر عقوداً قبلهم.
وما زالت الأوقاف تتعاظم، حتى كان في دمشق وحدها في العصر المملوكي زهاء 400 مدرسة وقفية، وتنوعت الأوقاف فكان بعضها مخصصاً لرعاية اللقطاء واليتامى، والمقعدين والعميان والعجزة، وبعضها لتحسين أحوال المساجين، وتزويج الشباب، بل رُصدت أوقاف خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقاف لرعي الحيوانات المُسنة العاجزة.
كان التعليم مجانياً للجميع يعزز هوية الأمة ويحمل رسالتها لغيرها من الأمم
بينما كان من النكبات التي واجهها العالم الإسلامي في عصرنا الحديث أن سعت الحكومات إلى السيطرة على أوقاف المسلمين وتأميمها، والتصدي لمحاولات أبرار الأمة للمشاركة في العمل المجتمعي، في حين نجد نقيض ذلك في الغرب، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها 75 ألف مؤسسة خيرية مانحة، بحسب إحصائية عام 2008م، تقدم منحاً تقدر بـ656 مليار دولار، يذهب أكثر من خُمسها للمؤسسات التعليمية، فإذا أضفنا المنح المقدمة إلى التطوير التكنولوجي العلمي، فإن القيمة ترتفع إلى ما يقارب الثلث، وبعض أشهر الجامعات الأمريكية هارفارد أسسها القس البروتستانتي جون هارفارد عام 1636م، وبلغت الأوقاف المخصصة لها في عام 2007م أكثر من 34 مليار دولار.
بناء عقلي محكم
لقد أسس الإسلام نهضته العلمية الباذخة على أساس من بناء عقلي محكم، ينفي عن نفسه الأوهام والخرافات والعواطف والأهواء، ويأبى الجمود والتقليد، ويجل أهل الخبرة والمعرفة في كل أمر، ولا يقبل دعوى بغير دليل، ويجعل التصديق ناتج البرهان، والشواهد من القرآن والسُّنة متعاضدة في ذلك الباب.
في المؤسسات التعليمية الإسلامية تتلمذ علماء الغرب عقوداً من الزمن على يد علمائنا
وعلى ذلك البناء العقلي قامت المؤسسات العلمية الكبرى، ونشأت أجيال من العلماء الذين ما زالت إنجازاتهم موضع احترام في التاريخ العلمي إلى اليوم، وكان التعليم مجانياً للجميع، يعزز هوية الأمة، ويحمل رسالتها لغيرها، وفي تلك المؤسسات تتلمذ علماء الغرب عقوداً من الزمن، وتلقى رجاله النبهاء العلم في معابر التواصل الحضاري في صقلية والأندلس وغيرهما.
ولما دخل المسلمون عصر التيه الحضاري أصبح مستهدفاً من الغرب، يستغوي علماءه ونبهاءه لينضموا إلى صناعة الحضارة الغربية، ويصبحوا بعد حين رسله إلى عالم المسلمين، إلا من رحم ربي، فتم استنزاف الكفاءات الإسلامية لصالح الحضارة المنتصرة، حتى توضح بعض الدراسات أن نحو 75% من الكفاءات العِـلمية العربية مُـهاجرة إلى 3 دول غربية، هي: بريطانيا وأمريكا وكندا، وهو نهج اختطه نابليون بونابرت حين أمر في رسالته إلى الجنرال كليبر -نائبه على مصر- بتجهيز 500 إلى 600 من المماليك، فإن لم يجد العدد كافياً فليكونوا من العرب ومشايخ البلدان؛ لتسفيرهم إلى فرنسا، فيظلوا هناك سنة أو سنتين، ثم يعودوا إلى مصر فيكون لفرنسا منهم «حزبٌ يضم إليهم غيرهم».
وهكذا نجد أن كثيراً من مشاريع حضارتنا ما يزال صالحاً للأخذ به، لكن الحقيقة أن تأخرنا الحضاري يلقي بظلال كثيفة من الوهن الذي يلحق بتاريخ الحضارة وصلاحيتها، والأمر مرتهن بأن تستعيد الأمة عافيتها لتقوم بمهمة الاستخلاف والهداية للعالمين.