شكلت وثيقة المدينة المنورة قصة السبق بالنسبة لكل دساتير العالم، وتعد أول تجربة سياسية إسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها دور بارز في إخراج المجتمع من دوامة الصراع القبلي إلى رحاب الأخوة والمحبة والتسامح، إذ ركزت على كثير من المبادئ الإنسانية السامية.
كما شكلت الوثيقة العقد الاجتماعي الأول في تاريخ المسلمين، وحتى في تاريخ البشرية، وإحدى أهم مرتكزات دولة النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع دستوراً ينظم الحياة العامة في المدينة، ويحدد العلاقات بينها وبين جيرانها قبل انصرام العام الأول للهجرة؛ دستوراً وعقداً سياسياً واجتماعياً لم يسبقه إليه نبي ولا مصلح ولا مليك، وقد اتفقت الوثيقة في مبادئها وأصولها مع المبادئ والأصول العامة والأساسية التي جاء بها الشرع جملة وتفصيلاً، وأهم تلك المضامين الاجتماعية والقانونية والعَقدية:
أولاً: المواطنة:
كانت يثرب قبل قيام الدولة الإسلامية مقسمة إلى خمسة أجزاء، كل جزء منها تسيطر عليه قبيلة من القبائل، وقد كان الخلاف بين مختلف القبائل مستحكماً، فكانوا يعيشون دائماً في حروب دامية متواصلة إلى أن تكونت الدولة الإسلامية منذ نشأتها بالمدينة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أساس دستوري مكتوب، وقد تكونت من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة؛ وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية.
وكان ارتباط الأفراد بالدولة ارتباطاً لا يشبه ارتباط الفرد بالفرد؛ لأن الدولة الإسلامية ليست فرداً، وإنما لأن الدولة الإسلامية وهي قيادة سياسية ومنظومة قانونية معاً، يلتزم بها الفرد والدولة، فهذه الآثار هـي الحقوق التي يتمتع بها الفرد في ظل الدولة والواجبات التي يلتزم بها قبلها، وهذه الرابطة هـي الجنسية بمفهومها الحديث، فهم جميعاً آمنون بأمان الإسلام، من المسلمين وغير المسلمين، بل لها من الرحابة ما تستوعب بـه العناصر الأخرى دون صهر أو تذويب، قابلة للتوسع والتقلص تبعاً لعدد من ينضم إليها أو يتركها باختياره.
ثانياً: الأخلاق الاجتماعية في الوثيقة:
عندما قَدِمَ الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وجد فيها جماعات متناحرة، فكوَّن منها مجتمعاً موحداً يختلف في جميع مناحي حياته عن المجتمع القديم، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم آنذاك؛ لأنه ارتكز في بنائه على الإسلام الذي حارب الأفكار الجاهلية وهدم المبادئ الفاسدة والنـزاعات الضارة، وقضى على العداوة التي ولدتها، وأقام بناء المجتمع على أسس راسخة ودعائم قوية، سقطت معها القيم القديمة التي كانت عاملاً في التناحر والفرقة، وجمع بين المسلمين برباط وثيق هـو الإيمان، كما التكافل والتعاضد بين البطون والقبائل والطوائف.
ثالثاً: مساواة الجميع أمام القانون:
الناس جميعاً سواسية أمام القانون الإلهي، غنيهم وفقيرهم، شريفهم ووضيعهم، المسلم وغير المسلم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، فحطمت بذلك التفرقة العنصرية والتمايز بين أعضاء المجتمع المديني.
وليس في القانون أي تمييز لأي فئة كيفما كانت أمام مغانـم الحياة العامـة ومغرمها في المدينة؛ لأن المبدأ الإسلامي العادل هـو الغرم بالغنم، وإن كان الله تعالى قد حمل المسلمين عبء التضحية والفداء لإقامة دولة الإسلام، فالكـل سـواء، لا فوارق ولا طبقية بينهم وبين بعضهم، إلا طبقاً للمعايير الموضوعية التي قررها الميثاق الإسلامي والمتمثلة بالإيمان والعمل الصالح.
رابعاً: مراعاة حق الجار:
بلغ الأمر في الإسلام أن جعل إكرام الجار آية من آيات الإيمان الصادق والتدين الأكيد، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ»؛ لكي تسود المجتمع المدني علاقات سليمة، ترتكز في الأساس على التعاون على البر، ورعاية الفضيلة ومنع الأذى، وإقامة الحق بين الناس جميعاً.
خامساً: ضمان الأمن لطوائف المجتمع وحق الحياة والدفاع المشترك:
لما جاء الإسلام آخى بين الناس، وأزال ما بينهم من العداوات، وسلَّ ما في قلوبهم من السخائم، وقضى على خرافة الهامة، وعدها من أباطيل الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هـَامَةَ وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»، وثبّت سيادة القانون الإسلامي الجديد الذي حرم قـتل النفس إلا بالحـق، فأصبح القتل من الكبائر، قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء: 93)، وبالتالي ألغى ذاك العرف الجاهلي الداعي للثأر، وحفظ الحياة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (البقرة: 179)، كما جمعت وثيقة المدينة بين أهل العقائد والأجناس، وجعلتهم مواطنين مكلفين بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء يفاجئ المدينة من الخارج.
كما يظهر أثر وثيقة المدينة في التأسيس لحوار إنساني ومجتمع متكامل بعيد عن العصبيات والمآرب الشخصية، وتنكشف فيه حقوق وواجبات كل إنسان في الدولة، وبدا أثر وثيقة المدينة المنورة في السلام العالمي من خلال:
1- التسامح الديني:
فلم يعرف الغرب الحرية الدينية ولا التسامح الديني إلا منذ قرن ونيف، وذلك بعد قرون مظلمة من التعصب الديني والاضطهاد والمجازر الرهيبة، ونتيجة لذلك الظلم والعدوان القائم على التعصب الديني والإرهاب الفكري، أعلن الإسلام بكل صراحة ووضوح عداوته للتطرف والغلو، سواء في الدين أو في التعامل الأخلاقي البشري، متوخياً في دعوته أسلوباً حضارياً راقياً يقوم على مبدأ التسامح ويندد بالتعصب الديني والإرهاب الفكري، وقد أعلن القرآن ذلك بصراحة ووضوح في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256).
2- التعايش والتعاون بين الناس داخل الدولة الواحدة:
إن التعايش مع الأديان بصفة خاصة، ضرورة من الضرورات الملحة التي يفرضها الحفاظ على سلامة البناء الإنساني، ويمليها الحرص المشترك على البقاء الحر الكريم في عالمنا، لذا نجد أن الإسلام قد سبق الأمم والمنظمات الدولية إلى إعلان نداء السلام العالمي بمقتضى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) (البقرة: 208)، فالإسلام يريد أن يؤكد في ضمير الناس حقيقة راسخة، وهي أن كل الناس من أصل واحد، وهو آدم عليه السلام.
3- الاعتراف بـالآخر:
وهذا يتوافق مع التوجيه القرآني لصـاحب الرسالة عندمـا أمره ربه تعالى أن يقول لمن لا يستجيب لدعوته: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6)، وفي قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، وهذا أقصى أنواع الاعتراف بالآخرين، الذي ينطلق من الثقة والاحترام، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
4- قيمة حقوق الإنسان في الوثيقة:
فقد كانت حياة العرب قبل الإسلام تموج بحركة عاصفة من الشهوات والمآثم، وحب السيادة والعلو، يعيش أفراد المجتمع فيها برباط الولاء للقبيلة، توجههم تقاليد متوارثة، وكان من أولويات الدولة الإسلامية الجديدة، التي أنشأها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة، أنها رسمت للناس المنهج القويم، الذي يكفل لهم الكرامة الإنسانية، فقد كانت بمثابة فتح جديد في تاريخ البشرية، حينما نص دستورها على أرقى مضامين الحرية والكرامة للإنسان، التي تمكنه من ممارسة حقوقه وحرياته الشخصية في هـذه الحياة، كونها ضرورات إنسانية فردية وجماعية لا سبيل لحياة الناس بدونها.
ومن هـذه الحقوق: حق الحرية وحق الحياة وحق حرية الاعتقاد وحق العدل والمساواة وكفالة حرية الرأي وحق الأمن والمسكن والتنقل وحق الفرد في المعونة المالية (التكافل والضمان الاجتماعي)، وغيرها من الحقوق التي كفلها «دستور» دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي في نظر الإسلام ليست فقط حقوقاً للإنسان، وإنما هـي ضرورات واجبة لهذا الإنسان؛ أي أن الإسلام قد بلغ بإقراره لحقوق الإنسان إلى الحد الذي تجاوز بها مرتبة الحقوق عندما اعتبرها ضرورات.
منذ اللحظة التي ظهر فيها الإسلام في أرجاء العالم، لم يكن ديناً فحسب، بل كان نمط حياة يهدف إلى بناء مجتمع يتسم بالتضافر والتكافل، ويُعتبر الإسلام مصدراً مهماً لتشجيع وتعزيز ثقافة التكافل في المجتمعات، ومن الأمور التي تبرز دور الإسلام في تنمية الثقافة التكافلية:
– الزكاة والصدقات: يحث الإسلام على دعم الفقراء والمحتاجين من خلال مفهوم الزكاة والصدقات، ويعتبر الإخراج المالي للزكاة والصدقات واجباً إسلامياً، وهو يعزز التواصل بين أفراد المجتمع ويقوي الروابط الاجتماعية.
– رعاية الفقراء والأيتام: يُحث المسلمون على رعاية الفقراء والأيتام، ويعتبر الاهتمام بهم جزءاً من العبادة، حيث يعزز هذا الأمر ثقافة التكافل والرعاية للأفراد الذين يحتاجون إلى دعم المجتمع.
– العدالة الاجتماعية: يشجع الإسلام على العدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن في المجتمع، ويشمل ذلك توزيع الثروة بشكل عادل ومحاربة الظلم والاستغلال، مما يعزز ثقافة التكافل والتضامن.
– المشاركة في المجتمع: يشجع الإسلام على المشاركة الفعّالة في شؤون المجتمع، وتشجيع الناس على تبادل المعرفة والخبرات يساهم في بناء ثقافة تكافلية قائمة على التفاعل الاجتماعي.
– فضيلة العطاء والمساعدة: يعتبر الإسلام فضيلة العطاء والمساعدة أموراً محورية في السلوك الإسلامي، وهذه القيم تساهم في تشكيل ثقافة تكافلية تعتمد على التضامن وتبادل المساعدة.
– الأخوة الإسلامية: يشجع الإسلام على التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع، ويروج لفكرة الأخوة الإسلامية، وهذا يساهم في بناء روابط قوية وثابتة بين الأفراد والمجتمعات.
وقد كشفت الوثيقة بوضوح أن البعد الإنساني والحضاري في فعاليات السيرة النبوية، وأن الاهتمام بالمسألة الاجتماعية والعلاقات البشرية، ليس أمراً عارضاً فرضته ظروف طارئة، وإنما هـو سمة أصيلة، واهتمام مركزي في المشروع الإسلامي النبوي والراشدي، ووضعت نظاماً متكاملاً للمجتمع المديني الجديد يختلف كلياً عن الأنظمة التي كانت سائدة في ذلك العصر، واعتنت بالفرد عناية فائقة، وضمنت له من الحقوق ما يجعله يعيش بها إنسانيته في حرية، وعزة، وكرامة، وكلفته بواجبات تجعل منه شخصاً مسؤولاً في المجتمع ينهض بمهمات تخولها مكانته وأهميته.
وتدلُّ وثيقة المدينة المنورة على حنكة وعبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في صياغة موادِّها، وتحديد علاقات الأطراف بعضها بعضاً، وتعتبر الوثيقة دليلاً على الفضاء الواسع للقيم الإسلامية وإنسانيتها، فضاء لا يحده الزمان ولا المكان، وهذا يتناسب مع انفتاح المسلمين مع العالم اليوم، وفق الحوار ومعاهدات الشراكة على المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية والفكرية.