لم تكن نتيجة الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا متوقعة لدى أكثر المتشائمين في صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم، ولا أكثر المتفائلين في صفوف حزب الشعب الجمهوري المعارض، ففي حين كان يجري الحديث قبل الانتخابات عن المنافسة الشرسة في كل من أنقرة وإسطنبول، مع تصريحات لقيادات العدالة والتنمية بدت واثقة من استعادة بلدية الأخيرة (رغم أن استطلاعات الرأي والتوقعات الموضوعية لم تؤكد ذلك)، أتت النتيجة مختلفة تماماً عن كل سجل الحزب الحاكم في الانتخابات منذ تأسيسه.
حل حزب «العدالة والتنمية» لأول مرة منذ عام 2002م ثانياً في الانتخابات التركية، وبعد غريمه التقليدي الشعب الجمهوري، وبتراجع نسبة التصويت له، وبفقدان بلديات إضافية غير أنقرة وإسطنبول اللتين احتفظ بهما الحزب المعارض.
الدستور الجديد أحد أهم الملفات التي سيهتم بها «العدالة والتنمية» في المستقبل القريب
وعلى عكس بعض المخاوف، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخطاب هادئ اعترف فيه بالنتائج، وأكد أن ترسيخ التجربة الديمقراطية والرضوخ لرأي الشعب مكسب لتركيا جميعها، ولذلك فالمنتصر في الانتخابات هو الشعب التركي كله.
ومع هذا الاعتراف، دعا أردوغان حزبه؛ قيادة وأنصاراً، للنظر في الأسباب الذاتية التي تسببت بهذه النتيجة، محذراً من إلقاء اللوم على الشعب بدل النقد الذاتي، مما قد يخسر الحزب أكثر فأكثر، وربما يتسبب باختفائه عن الساحة السياسية كأحزاب أخرى قديماً.
وفي معرض تعليقه على نتائج الانتخابات، قال أردوغان: إن ما حصل أكثر بكثير من مجرد فقْد لأصوات الناخبين، بل يرقى لـ«فقْد الروح» تسبب بفجوة ثقة كبيرة مع الناخبين؛ ولذلك فقد أكد أن حزبه سيدرس أسباب التراجع وفحوى الرسائل التي حملها صندوق الاقتراع والعمل بموجبها لاستعادة هذه الثقة، وأكد الرجل أن السنوات الأربع المقبلة، المدة الزمنية المتبقية حتى الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، مطلوب فيها العمل على مختلف الملفات ومن مختلف الأطراف بعيداً عن ضغط الانتخابات.
في تقييم ما سبق، نقف على المعطيات التالية:
أولاً: إعلان العدالة والتنمية استجابته لنتائج الانتخابات والعمل بمقتضاها.
ثانياً: مرحلة جديدة في السياسة الداخلية للبلاد.
ثالثاً: ملفات مهمة ستمنح الأولوية في المرحلة الجديدة.
رابعاً: أن الانتخابات الأخيرة ورغم كونها محلية أو بلدية ستكون أحد مدخلات الانتخابات القادمة في عام 2028م، وأحد محددات نتائجها.
استقرار المشهد السياسي
ورغم نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، يبقى المشهد السياسي في البلاد مستقراً، فالرئيس أردوغان ما زال على رأس عمله في ظل نظام رئاسي يمنحه الصلاحيات، وهو إلى ذلك يتمتع بأغلبية البرلمان من خلال تحالف الجمهور الذي يدعمه، لكن كل ذلك لا يحُول دون الحديث عن مرحلة جديدة ومختلفة في تركيا عنوانها بعض التحديات والملفات التي يواجهها أو سيواجهها العدالة والتنمية في الشهور والسنوات المقبلة.
من المحطات المهمة المؤتمر العام لـ«العدالة والتنمية» ليكون محطة للمراجعة والمحاسبة
في المقام الأول، كان من مفاجآت ما بعد الانتخابات انفتاح الحزب على الشعب الجمهوري المعارض بلقاء بين أردوغان ورئيس الأخير أوزغور أوزال، بعد سنوات من آخر لقاء بين رئيسي الحزبين، وهو وإن أتى إثر طلب من الحزب المعارض ضمن زيارات لعدة أحزاب، فإنه وافق رغبة أو موافقة لدى العدالة والتنمية أيضاً.
من دوافع هذا الانفتاح تراجع حدة المشهد الانتخابي الزاخر بالمناكفات والتراشقات، والضرر الذي يتسبب به الاستقطاب السياسي على الاقتصاد، وما يحتاجه البرنامج الاقتصادي الإصلاحي من هدوء داخلي وفي السياسة الخارجية، وقناعة الحزب الحاكم أن حدة الاستقطاب أضرته وأفادت خصومه في الانتخابات، والتفاعل الإيجابي مع المشهد السياسي المستجد بعد الانتخابات، فضلاً عن حرص العدالة والتنمية على دعم الشعب الجمهوري وتعاونه في ملفات بعينها في مقدمتها وضع دستور جديد للبلاد.
الدستور الجديد
والدستور الجديد نفسه أحد أهم الملفات التي سيهتم بها العدالة والتنمية في المستقبل القريب، ثمة إجماع بين الأحزاب المختلفة على ضرورة صياغة دستور مدني للبلاد يحل مكان دستور عسكر الانقلاب الذي صيغ في عام 1982م وما زال يحمل «روح الانقلاب» رغم 19 تعديلاً عليه، كما يقول السياسيون في البلاد، ورغم أن محاولات سابقة باءت بالفشل، فإن العدالة والتنمية ما زال يرى ضرورة العمل على هذا الملف، خصوصاً أن أردوغان يراه أحد المشاريع الكبيرة التي يريد قرن اسمه وختم حياته السياسية بها.
ولذلك، فقد أجرى رئيس البرلمان، القيادي السابق في العدالة والتنمية، نعمان كورتلموش، جولة أولى على الأحزاب الممثلة في البرلمان لاستمزاج آرائها بخصوص الدستور الجديد، لكن لا بد من الإشارة إلى أن توافق الأحزاب على ضرورة كتابة دستور جديدة لا يعني التوافق على صياغته بالضرورة، ذلك أن هناك خلافات أساسية وعميقة بينها بخصوص عدد لا بأس به من المواد، بل على أصل النظام السياسي بين رئاسي وبرلماني.
المؤتمر العام
ومن المحطات القادمة المهمة المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية الذي حرص على أن يأتي في مرحلة ما بعد الانتخابات؛ ليكون بمثابة محطة للمراجعة والمحاسبة والتجاوب مع رسائل الصندوق، وقد أعلن الرئيس أردوغان عن «إطلاق مسار المؤتمر العام» الذي يبدأ عادة بعدة اجتماعات مع الكتلة البرلمانية ومجموعة رؤساء البلديات ورؤساء فروع الحزب، ثم يستمر بمؤتمرات فرعية في أحياء المدن الكبرى ثم في المدن والمحافظات ليصل محطته النهائية في المؤتمر العام على مستوى تركيا.
أردوغان: الحزب لا يحتاج مجرد أسماء أخرى وإنما روح جديدة وحماسة تُبثُّ داخله وتُحييه
وإذا كان من عادة الحزب الإتيان بنسبة تغيير قريبة من 40% في الهيئات الاستشارية والتنفيذية في الحزب في كل مؤتمر، فإن ذلك لن يكون كافياً في المؤتمر القادم، فالحزب يدرك أن رسائل الاحتجاج في صندوق الاقتراع لن يعالجها تغيير بعض الأسماء، وإنما يحتاج الأمر لمراجعة مجموعة الأفكار والسياسات والخطاب والتحالفات التي يتبناها الحزب في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الآثار المترتبة على المدة الطويلة في الحكم من ترهل وتراجع أداء وضعف انتماء الفكرة وغير ذلك؛ ولذلك فقد كان لافتاً أن أردوغان في تصريح له أمام كتلة حزبه البرلمانية قال: إن الحزب لا يحتاج مجرد أسماء جديدة، وإنما روح جديدة، وديناميات جديدة، وحماسة جديدة تُبثُّ داخل الحزب من خلال الأسماء المضافة.
مرتبطاً بفكرة التجديد من خلال المؤتمر، قد يكون هناك تعديل وزاري في المدى المنظور، وإن كان احتماله وكذلك تأثيره أقل من التغيير المتوقع والمنتظر في المؤتمر العام للحزب.
وإضافة لكل ما سبق، يبقى هناك سؤال مهم وجوهري لم يطرح حتى اللحظة؛ وهو خلافة أردوغان في الحزب والدولة، حيث إنها العهدة الرئاسية الأخيرة له دستورياً، باستثناء إذا ما طلب البرلمان نفسه تبكير الانتخابات، ويرتبط بهذا السؤال سؤال آخر عن مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي يفترض نظرياً أنها ستكون الأولى التي سيخوضها العدالة والتنمية بدون أردوغان.
في الخلاصة، دخل العدالة والتنمية ومعه تركيا بعد الانتخابات المحلية الأخيرة في مرحلة جديدة لها معادلات مختلفة، وتركيزُ أردوغان على أن هناك 4 سنوات بلا انتخابات، فيه إشارة واضحة على إيلاء الأولوية للملفات المهمة والثقيلة بدءاً بالاقتصاد ومروراً بما سبق ذكره من ملفات وربما وصولاً لملفات شائكة مثل المسألة الكردية.
وفي كل الأحوال، فإن فرص الحزب في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة في عام 2028م ستعتمد على عوامل عديدة؛ في مقدمتها اثنان؛ المناخ السياسي والاقتصادي في البلاد في وقت الانتخابات وهو ما يصعب توقعه من الآن، ومدى استجابة العدالة والتنمية مع رسائل الانتخابات المحلية واقتناع الشارع بهذه الاستجابة، الذي ستتضح بعض إشاراته في الشهور المقبلة.