لقد انتهت الحضارة الغربية المادية، وبسطت هيمنتها على العالم بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945م بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وظلَّ هذا الانتصار بالنسبة للغربيين مصدر إلهام للذاكرة لعقود من الزمن.
ثم مَثَّل سقوط جدار برلين عام 1989م، وتفكُّك الاتحاد السوفييتي عام 1991م لحظة الغرور بالأحادية القطبية في هذا الزمن الأمريكي، وبدل تقليص وجود حلف «الناتو» أو إنهائه، بعد تأسيسه عام 1949م للدفاع عن أعضائه كما ينصُّ ميثاقه، فقد عزَّزت أمريكا هذا الحِلْف، واعتبرته إحدى أدوات هيمنتها، بالتوسُّع والتدخُّل واحتلال الدول باسم الحروب الاستباقية وإستراتيجية الحروب الكونية ضد الإرهاب، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م.
كتاب «صدام الحضارات» يعد بداية الاستشعار بخطر تراجع الهيمنة الغربية وموت الغرب
عاش هذا الغرب (أمريكا وأوروبا) لحظة النشوة الحضارية؛ ما دفع بالمفكر والفيلسوف الأمريكي، الياباني الأصل، فرنسيس فوكوياما ليبشّر بنبوءة نهاية التاريخ والإنسان الأخير منذ عام 1989م، الذي غَرق في وَهْم النتيجة الخادعة بأن تاريخ الإنسانية قد وصل إلى ذروة الكمال البشري بانهيار الشيوعية وانتصار الديمقراطية الليبرالية والليبرالية الاقتصادية الغربية، وأنه لا مفرَّ من التسليم بهذه الهيمنة الغربية على العالم.
الأيديولوجيات الثلاث
ويعتقد المفكر الروسي أليكسندر دوغين -عقل بوتين- أنَّ جميع الأنظمة السياسية في العصر الحديث لا تخرج عن نِتاج الأيديولوجيات الثلاث المتميزة؛ الماركسية والفاشية اللتان فشلتا وتلاشتا من صفحات التاريخ، والديمقراطية الليبرالية الغربية التي تعمل كأيديولوجية متجذرة، يُراد لنا أن نُسلّم بها كنهاية للتاريخ على حد تعبير المفكر الأمريكي فوكوياما، وكأنها ذروة الكمال التاريخي للإنسانية، وهي الليبرالية التي تهدد العالم باحتكار الخطاب السياسي والقيم الإنسانية والعولمة المعتدية على الخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية للشعوب والدول، وأنه لا بد لها من بديل عن هذه المركزية الغربية، والمتمثلة في الأحادية القطبية الأمريكية الحالية.
ولا نتفق مع ما ذهب إليه دوغين في هذا الكتاب بأن الحضارة الأوراسية (الروسية والصينية والهندية والإيرانية) هي البديل عن الحضارة الغربية، وهو ما ينذر بعودة خطر الثنائية القطبية، إذْ لا يتفق ذلك مع واقع صعود قوى أخرى تبشِّر بتعددية قطبية تدفع نحو عالم أكثر عدل وأمن واستقرار وتوازن، بما فيه الاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية من جديد.
إن كتاب «صدام الحضارات» للمفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون هو بداية الاستشعار بخطر تراجع الهيمنة الغربية وموت الغرب، وعدم الثقة بالهيمنة المطلقة، وقد رافع بقوة وشجاعة ليبيِّن بالأدلة الواقعية أن التاريخ لم ينتهِ لصالح الرأسمالية الغربية، وقفز بكل رشاقة إلى جوهر هذا الصدام القادم، حيث يقول: إنَّ عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي وجدار برلين يتألَّف من 8 حضارات متنافسة، لكن الصدام المحتمل على المدى القريب سيكون بين 3 حضارات، هي: الحضارة الغربية الرأسمالية، والحضارة الصينية، والحضارة الإسلامية، أما على المدى البعيد فإنَّ هذا الصدام المحتمل سينحصر بين الحضارة الغربية والإسلام.
كان هذا الكتاب الجريء بمثابة القنبلة الفكرية والسياسية شديدة الانفجار التي أصابت النخب الغربية بالذهول والصدمة.
ظهور نخب فكرية غربية تعمل على تفكيك المعتقدات والأفكار والقيم تؤدي لسقوط الغرب
إنَّ مفهوم سقوط الغرب الليبرالي وصعود الشرق متعدد الأقطاب ليسَا مفهومين منفصلين، وليسَا مرحلتين متمايزتين بالضرورة، في ظل نظام عالمي واحد، وفي ظل تاريخ مستمر بلا انقطاع، ومهما بلغت الحضارة الغربية في سطوتها المباشرة (الاحتلال)، أو الإشراف غير المباشر (الاستعمار الجديد)، أو قوة التأثير على الدول (الهيمنة)، فإن صراعها الوجودي من أجل تأبيد الأحادية القطبية لن يكون إلا معاندة للحتمية التاريخية بإعادة تشكيل النظام العالمي من جديد، وعلى قواعد من التعددية القطبية، وهو ما تصر عليه روسيا والصين في مواجهة الغطرسة الأمريكية.
نهاية الهيمنة الغربية
وقد قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير (1997م – 2007م)، في منتدى دعم التحالف بين أمريكا وأوروبا في محاضرة بعنوان «بعد أوكرانيا.. ما الدروس الحالية للقيادة الغربية؟»، فيقول: نحن نشهد نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية، وأن حرب أوكرانيا أظهرت أن هيمنة الغرب تشهد نهايتها في ظل صعود الصين لتكون قوة عظمى بالشراكة مع روسيا في أوضح نقاط التغيُّر في المشهد العالمي منذ قرون، مستنتجاً أن العالم سيصبح ثنائي القطب على الأقل أو متعدد الأقطاب، وأنَّ التغيير الجيوسياسي في هذا القرن سيأتي من الصين وليس من روسيا.
لقد كان لإرهاصات تشكُّل نظام عالمي جديد الجدل المتزايد لفهم عالم ما بعد الحرب الباردة، وهو ما دفع بالمفكر الأمريكي باتريك بوكانان بإلهاب الساحة الفكرية والسياسية داخل المنظومة الغربية بكتابه المثير للجدل لدى العقل الغربي، وهو كتاب «موت الغرب»، محذِّراً الحضارة الغربية من هذا الرعب الزاحف في غفلة من هذا الغرور الغربي المتنامي.
فهناك عدة ملامح تؤشر على هذه الأزمة البنيوية داخل المنظومة الغربية، ومن بينها ما ذكره الكاتب والمفكر الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الصادر بداية هذا العام بعنوان «هزيمة الغرب»، وهو العنوان الصادم والمستفز للنخب الفكرية والسياسية والإعلامية الفرنسية، ذلك أن هذا الكاتب قد سبق له التبشير بنهاية الاتحاد السوفييتي، في وقت كانت فيه الشيوعية متربعة على ذروة صعودها العالمي، حيث أصدر كتابه «السقوط النهائي» عام 1976م، مستعرضاً أسباباً دافعة لسقوط هذه المنظومة الشيوعية، ومن بين الأسباب التي يراها الكاتب في سقوط الغرب:
1- أنَّ الملايين من المهاجرين الذين شكَّلوا داخل المجتمعات الغربية ثقافات جديدة، لا تُدِين لحضارة الغرب بالولاء؛ مما يجعل الخطر داخلياً على الغرب لا مفرَّ من الاعتراف به، فقد بدأ المهاجرون يأخذون لأنفسهم كيانات ذاتية مستقلة، تحت مظلة الديمقراطية والتعددية الثقافية، وهو المارد المخيف الذي يهدِّد حضارة الغرب في معركة البقاء.
2- تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب في الغرب، بعزوف الأسرة الغربية عن الزواج الكاثوليكي القديم، والتوجُّه نحو اللذَّة وعدم تحمل المسؤولية، وظهور أسرة ما بعد الثورة التكنولوجية بتكوينها العضوي الأحادي (المثلية).
العدو الحقيقي للغرب هو نفسُه بسبب جفاف خصوبته وموت أخلاقه وتآكل نظامه الأسري
3- المتأمِّل في طبيعة النظام الثقافي والنسق الأخلاقي السائد في الغرب يدرك تعرُّضه لثورة اجتماعية وثقافية، بظهور نخب سياسية وفكرية تعمل على تفكيك المعتقدات والأفكار والقيم، وخلق مجتمعات هجينة وجديدة، فأصبح الزنى والإجهاض والقتل الرحيم والمخدرات والانتحار من الفضائل والقيم السامية لمجتمعات ما بعد الثورة الثقافية الغربية.
4- لقد أدت الكاثوليكية دوراً مهماً في التاريخ الأوروبي، كما ساهمت البروتستانتية كثورة حاولت الجمع بين التدين والعلم، التي اعتنقتها دول، منها: الولايات المتحدة وألمانيا وإنجلترا، قد ساهمت في صعود القوة الغربية بشكلها الحديث، لكن الحداثة الغربية سرَّعت من انفصال الإنسان الغربي عن أصله، وتباعد جسده عن روحه، والتصاقه بمعتقدات فاسدة وقوانين شاذَّة، سلبت من الحضارة الغربية فطرتها وهويتها.
فالعدو الحقيقي للغرب هو نفسُه، والخطر الفعلي عليه هو ذاتُه، بما يهدِّده بالانقراض، بسبب جفاف خصوبته، وموت أخلاقه، وتآكل نظامه الأسري، وبما سيجنيه كثمار فاسدة بإشعاله للحروب واستباحته للشعوب.
إن ما يسمِّيه إيمانويل تود في كتابه «هزيمة الغرب» بالعدمية الغربية كانت بسبب استبدال الجشع في الأيديولوجيا النيوليبرالية بالأخلاق الدينية المحفِّزة على العمل، التي جعلت الغرب معزولاً أخلاقياً وقيمياً، بعد أن فشل في فرض عولمته المتوحشة على أغلب الشعوب والدول الأخرى، وهو ما يعزِّز فكرة تاريخية منذ «المقدمة» لابن خلدون، وهي أن أي حضارة لا يُكتب لها النجاح بالاستمرار في الصدارة العالمية في ظل إخفاقاتها الأخلاقية.