(1)
خرج القائد الرومي (جورجه) أو (جورج) من معسكره متحديًا أمير جيوش المسلمين خالد بن الوليد أن يبرز له، فلما برز له وتقارَبا بجوادَيْهما، أمَّن كل منهما صاحبه، ثم دار بينهما الحوار الآتي بصوت خفيض:
*اصدُقْني ولا تَكْذِبْني يا خالد؛ فإن الحرَّ لا يكذب، ولا تخادعني؛ فإن الكريم لا يخدع.
• فيمَ يا جورج؟
* هل أنزل الله على نبيِّكم سيفًا من السماء فأعطاه لك؟ فلا تسله على قوم إلا هزمْتَهم؟
• لا والله!
* لماذا سميتَ بسيف الله إذًا؟
• إن الله سبحانه وتعالى بعث فينا نبيًّا دعانا إلى الله، فنفَرْنا ونأَيْنا عنه، ثم إنَّ بعضنا كذَّبه وباعده وقاتَلَه.
* وهل كنت من ذلك البعض؟
• نعم، إن الله أخذ بقلوبنا فهدانا به فتابعناه.
* أهو الذي سمَّاك سيف الله؟
• نعم قال: ((أنت سيف من سيوف الله، سَلَّه على المشركين)).
* وإلامَ تدعوني؟
• إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله.
* وما منزلة من يدخل فيكم اليوم؟
• منزلتنا واحدة فيما فرض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، أوَّلُنا وآخرنا.
* وهل لمن دخل فيكم اليوم مثل ما لكم من الأجر؟
• نعم وأفضل.
* كيف يساويكم وقد سبقتموه؟
• إنَّا دخلنا في الإسلام وبايعنا نبيَّه وهو حيٌّ بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات… وحق لمن يرى ما رأينا، ويسمع ما سمعنا، أن يُسلِم ويبايع، وأنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل اليوم في الإسلام بحقيقة ونيَّة صادقة، كان أفضل منا.
* قال جورج لخالد:
• والله لقد صدَقتَني… أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله[1].
♦ ♦ ♦
(2)
عندما قدم جيش سعد بن أبي وقاص من العراق بعد القادسية، وسقوط دولة فارس، أراد بعض الصحابة أن تُقسَّم الأرض بمن فيها على المسلمين، لكن عمر رفض ذلك وقال: والله لن يُفْتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون عبئًا على المسلمين، وإذا قسمت الأرض فما يُسَدُّ به الثغور؟ وما يكون للذرِّية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل العراق والشام؟
فأكثَروا على عمر في تقسيم الأرض ومن فيها، فكان عمر لا يزيد على أن يقول: هذا رأيي، قالوا: فاستَشِرْ، قال: فاستشار المهاجرين الأولين فاختلَفوا، وكان عثمان وعليٌّ وطلحة على رأي عمر، ثم أرسل عمر إلى عشرة من الأنصار: خمسةٍ من الأوس، وخمسة من الخزرج، من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا، حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: إني لم أَدْعُكم إلا لأن تشركوا في أمانتي فيما حُمِّلتُ من أمركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرُّون بالحق، خالَفَني من خالفني، ووافَقَني من وافقني، ولستُ أريد أن تتبعوا الذي هو هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنتُ نطقتُ بأمرٍ أريده ما أردت به إلا الحق.
قالوا: قلْ نَسمعْ يا أمير المؤمنين.
• قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين يزعمون أني أَظلِمُهم حقوقَهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا، ولقد غنَّمَنا اللهُ الفُرسَ وأرضَهم وعُلُوجهم، فقسمتُ ما غنموا من مال أو متاع بين أهله، وأخرجت الخمسَ فوجَّهتُه على وجهه، وقد رأيت أن أحبسَ الأرض بعلوجها، يرعونها ويؤدون الخراج عليها، فيكون فيئًا للمسلمين، للمُقاتِلةِ والذرِّية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور، لا بدَّ لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العِظام (الشام – والجزيرة – والكوفة – والبصرة – ومصر)؟ لا بدَّ لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمتُ الأرضين والعلوج؟
فقالوا جميعًا: الرأي رأيُك، فنِعْمَ ما قلتَ وما رأيتَ.
فقال عمر: قد بان لي الأمر.
واتخذ قراره بترك الأرض لأصحابها يزرعونها ويؤدون الخراج عليها، فكان ذلك خيرًا للمسلمين ولغير المسلمين؛ بسبب الشورى والحوار بين الحاكم والمحكومين للمصلحة العليا.
قدم عمر بن الخطاب إلى الشام على حمار فتلقاه معاوية في موكب نبيل، فأعرض عنه عمر؛ فجعل يمشي إلى جنبه راجلًا، فقال له عبدالرحمن بن عوف:
• أتعبتَ الرجل. فأقبل عليه.
قال عمر: يا معاوية: أنت صاحب الموكب مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال نعم: يا أمير المؤمنين.
قال: ولمَ ذلك؟
قال: لأنَّا في بلاد لا تمنع من الجواسيس، ولا بد لهم ما يروعهم من هَيبة السلطان، فإن ألزمتَني بذلك أقمتُ عليه، وإن نهيتَني عنه انتهيتُ.
قال عمر: إن كان الذي قلتَ حقًّا فإنه رأيٌ أريب، وإن كان باطلًا فإنها خدعة أديب، لا آمُرُك ولا أنهاك[2].
وكتب الخليفة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه إلى أهل نجران حيث خالفوا العهود، واستحَقوا الجلاء، فقال:
“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب به عمر أمير المؤمنين لأهل نجران؛ من سار منهم آمِنٌ بأمان الله لا يضُرُّه أحد من المسلمين، وفاءً لهم بما كتب لهم محمدٌ النبيُّ وأبو بكر، أما بعد…
فمن مَرُّوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من حرث الأرض؛ فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة لوجه الله وعقبة لهم مكان أرضهم، لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم، ومن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلَمَهم؛ فإنهم أقوام لهم الذِّمَّة، وجزيتهم متروكة عنهم أربعة وعشرين شهرًا بعد أن يقدموا، ولا يكلَّفوا إلا من صنعهم البر، غير مظلومين ولا معتدى عليهم، شهد عثمان بن عفان ومعيقيب”.
♦ ♦ ♦
(3)
وجَّهَ ملك الروم إلى معاوية بن أبي سفيان بقارورة، فقال: ابعث لي فيها من كل شيء.
فأرسَلَ إلى ابن عباس يسأله الجواب، فقال له: لتملأها له ماء.
فلما ورَدَ بها على ملك الروم قال: لله أبوه، ما أدهاه!
فقيل لابن عباس: كيف اخترتَ ذلك؟ فقال: لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30].
♦ ♦ ♦
(4)
أتى أعرابي إلى عليِّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، فسأله شيئًا، فقال عليٌّ: والله ما أصبح في بيتي شيء فضَلَ عن قُوتِي.
فولَّى الأعرابي وهو يقول: والله ليسألنك الله عن موقفي بين يديك يوم القيامة، فبكى عليٌّ بكاءً شديدًا، وأمر بردِّه، وقال لخادمه قنبر: ائتني بدرعي، فدفعها إلى الأعرابي وقال: لا تخدعن عنها (أي: لا يغشك أحد في ثمنها)؛ فطالما كشَفتُ بها الكروب عن وجه رسول الله.
قال قنبر: يا أمير المؤمنين، كان يكفيه عشرون درهمًا.
قال عليٌّ: يا قنبر، والله ما يسُرُّني أن لي زنة الدنيا ذهبًا وفضة فتصدَّقتُ به وقَبِلَ الله مني ذلك، وأنه يسألني عن موقفي هذا بين يديه.
__________________________________
المصدر: الموقع الرسمي للدكتور عبدالحليم عويس.