لقد شيد المسلمون حضارة عظيمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فالحضارة الإسلامية راسخة في الأرض، وفروعها في السماء، تنبع من عقيدة سليمة، وعبادة صحيحة، وأخلاق حسنة، وعلوم نافعة،
وقد ازدهرت الحضارة الإسلامية في كل ميادين الحياة، بسبب التأسيس الجيد لها، والضبط المستمر لمسارها، والغاية المجيدة التي تسعى لها.
فكيف تأسست هذه الحضارة العظيمة؟ ومن هم المؤسسون لها؟
أولاً: القرآن الكريم:
القرآن الكريم هو كتاب الحضارة الأول، فهو الذي أسس العقيدة السليمة، التي تقضي بعدم العبودية إلا لله سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 62)، وقال عز وجل: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف: 40)، كما دعا إلى العبادة السليمة والأخلاق الحسنة والعمارة النافعة للأرض، فقال عز وجل: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)؛ أي طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين؛ أن يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحاً(1).
ففي هذا تأكيد على دعوة القرآن الكريم إلى البناء الإيماني والتعبدي والضبط الأخلاقي والعمل الدنيوي النافع في عمارة الأرض وإصلاحها، وهذا يؤكد أنه المؤسس الأول للحضارة الإسلامية، فكم في القرآن الكريم من آيات تحث على العلم النافع، وكم فيه من آيات تحث على العمل الصالح.
ثانياً: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا إلى القيم الحضارية التي استقاها من الوحي الإلهي، وهو الذي طبقها في الواقع العملي، وربى أصحابه وأمته عليها، وهو الذي أقام التشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغيرها من النظم المتعلقة بإدارة شؤون الحياة والارتقاء بها.
فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته بتعزيز القيم الحضارية الموجودة لدى البعض في المجتمع العربي والمشاركة فيها، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ»(2)، فلم يقُل عليه الصلاة والسلام: بعثت لإنشاء مكارم الأخلاق، وإنما قال لإتمامها.
ففي هذا دليل على وجود بعض المكارم الأخلاقية بين الناس، ومن ذلك ما كان موجوداً من رد المظالم إلى أهلها، مثل مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في «حلف الفضول» حين اجتمع أهل مكة وتعاهدوا على ألا يجدوا مظلوماً إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وقال في شأنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِاللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت»(3).
كما حرص على التأسيس المتين للحضارة الإسلامية في الجانب المعنوي والمادي، أما الجانب المعنوي فقد ظهر من خلال الدعوة إلى العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والإخاء والمساواة والحرية، وفي الجانب المادي من خلال الحث على العمل، والكسب الحلال، ومواجهة الظواهر السلبية التي تعوق المسيرة الحضارية، كالفقر والبطالة والغش وغيرها.
ثالثاً: خلفاء المسلمين وقادة الدولة الإسلامية:
هم الذين أرسوا معالم الحضارة، وكانت أفعالهم مصدرًا للفكر الحضاري، ومن الأمثلة التي تدل على هذا؛ ما فعله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تدوين الدواوين، واتخاذ الجند، فعندما توسعت الفتوحات الإسلامية، وزاد المال؛ استشار المسلمين في تدوين الديوان، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين، قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً وجندوا جنوداً، فدوِّن ديواناً وجنِّد جنوداً، فأخذ بقوله(4).
رابعاً: علماء المسلمين:
انطلق علماء المسلمين من الفهم السليم لنصوص الوحي الشريف إلى كل مجالات الحياة، يبحثون فيها، ويتعرفون الأسرار التي أودعها الله في خلقه، ويبينون سبل الإفادة منها في خدمة البشرية، وكان للمسلمين إسهاماتهم المعروفة في وضع أسس علوم جديدة، مثل علم الجبر، بواسطة الخوارزمي، وعلم أصول الفقه بواسطة الإمام الشافعي، وعلم الاجتماع بواسطة ابن خلدون، الذي يُعَدّ أول من استخدم لفظ الحضارة، وجاء به ليحمل مفهوماً جديداً مستقلاً عن مفهوم المدنية الذي جاء في كتابات اليونان والرومان، حيث بيّن أن الحضارة عكس البداوة، وأنها زائدة على الضروري من أحوال العمران، فهي تفنن في الترف، وإذا حصل ذلك لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتّخلّق بعوائدها، فإذا أحسنوا نمت واكتملت، وإلا تلونت نفوسهم من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها.
وإذا فسدت أحوال الأشخاص اختلّ نظام المدينة، بسبب خراب نفوسهم وانشغالهم بما لا منفعة فيه، وهذا هو الطّور الّذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه، وهو ما عبر عنه بقوله: «إن الحضارة هي غاية العمران ونهاية عمره وإنها مؤذنة بفساده»(5).
فالحضارة نعمة تقتضي تحسين أوضاع الحياة والسعي إلى بلوغ الكمال المادي والمعنوي فيها، مع الحرص على ضبط النفس والسلوك وفق الحق والصواب.
وهنا يتبين أن ابن خلدون هو أول المؤسسين للفكر الحضاري بشكل محدد ومكتوب، حيث حرر مفهوم الحضارة، وحدد الأسس التي ترتكز عليها، والضوابط الحاكمة لها، والمقاصد الساعية إليها، والمحاذير التي تنذر بسقوطها.
إن الحضارة الإسلامية قد قامت على أساس الوحي الشريف وهو القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، وما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من تأسيس وتطبيق للنظم الإسلامية في كافة جوانب الحياة، حيث انطلق الخلفاء والقادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من المسلمين الصادقين وحرصوا على البناء الكامل للحضارة الإسلامية، بحيث يشمل هذا البناء جوانب الحضارة المعنوية والمادية، حتى عمت منافعها أرجاء الكرة الأرضية.
____________________
(1) تفسير الشعراوي (11/ 6530).
(2) السلسلة الصحيحة، الألباني (45).
(3) انظر: ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 134).
(4) الطبقات الكبرى، ابن سعد، ص 224.
(5) مقدمة ابن خلدون، المقدمة (1/ 465).