في عالم يؤمن بقيم التنافس اللاأخلاقي بين الأفراد والشعوب، وتشجيع القيم النفعية التي زادت من إفقار الفقراء لصالح قلة قليلة من النخب الرأسمالية المؤمنة بندرة الموارد ووجوب احتكارها، تزداد الحاجة للعودة للنظام الاقتصادي الإسلامي القائم على مبدأ وفرة الموارد مع وجوب ترشيد استخدامها الذي يتماشى مع الفطرة الإنسانية السليمة وحاجة المجتمعات للجمع بين مزايا الحقوق الفردية في التملك والاستثمار، ومبادئ الحماية المجتمعية وفق قاعدة من عدالة التوزيع والمسؤولية والتكافل والتوازن بين الفوائد والأخطار، وهو ما تكفله الشريعة الإسلامية.
حول إمكانات تطبيق مبادئ الشريعة في عالم التحول الرأسمالي والرقمي، يدور حوار «المجتمع» مع د. محمد السيد، الباحث المتخصص في الاقتصاد الإسلامي.
هل نشأ علم الاقتصاد للتعبير عن النخب أم عامة الشعب؟
– سأحيلكم لعالم شهير مثل جون راندال في مؤلفه «تكوين العقل الحديث»، يثبت الغائية في علم الاقتصاد، فيقول: إن علم الاقتصاد قام أساسًا لتسويغ مطالب طبقات التجار بالتحرر من تدخل الحكومة، وإن تطور نظريات الاقتصاد كان رهين تطور المطالب الخاصة بالطبقة المتوسطة، فعندما كانت مصلحتها في تدخل الدولة لحماية مكاسبها وتدعيمها قدمت نظريات التدخل وبررتها، وعندما تمكنت من تحقيق نفوذها القوى في المجتمع لم تعد في حاجة إلى تدخل الدولة، فجاء الاقتصاد ليبرر هذا التحول وينادي بالحرية على يد «الفيزوقراط» والكلاسيك.
الاقتصاد الغربي يفرض نفسه على العالم بالقوة والإغراء
وقد حدث طمس متعمد لموضوعات كثيرة أثارها آدم سميث تتعلق بأحوال الطبقة العاملة والمزارعين وسوء ما هم عليه، وضرورة تحسين أوضاعهم، والتأكيد على أنه لا سعادة لمجتمع يكون القسم الأعظم من أفراده فقراء تعساء.
إن مشاعر الرحمة كانت تعكس نظرة سميث لم يشاركه فيها علماء اقتصاد الصناعة المنتصرة، وقد أسدل ستار النسيان على تلك المقولات، وأصبح بعد ذلك سميث ممثلاً بالدرجة الأولى لسياسة حرية التجارة ومبدأ عدم التدخل!
في المرحلة الكلاسيكية الحديثة بزعامة بنثام وتلميذه جون ستيوارت مل، كان بنثام نفسه الناطق بلسان الطبقة الإنجليزية المتوسطة، وقد بدا له أن ما تطلبه هذه الطبقة هو أفضل شيء للمجتمع، أما نظرية المنفعة الحدية في الاقتصاد فقد اكتشف الاقتصاديون المعاصرون في السنوات العشر الأخيرة فقط أنها بعيدة كل البعد عن أي اتصال بالعالم الاجتماعي الواقعي وما يجري فيه.
وما الذي ترونه فيمن يصر على فصل الاقتصاد والسياسة وسائر العلوم عن الدين؟
– ليس صحيحًا القول بأن علم الاقتصاد القائم علم عالمي لا وطن له ولا دين له؛ لأنك إذا نظرت في تاريخ علم الاقتصاد لا تجد إلا علم الاقتصاد الرأسمالي الغربي، ولا وجود لغير هذا العلم ونظرياته، يفرض بعضها بالقوة، وبعضها بالإغراء، وبعضها بالسيطرة السياسية وغير ذلك.
جرى فرض فلسفة التسليع والربح على السلوك الإنساني
الحقيقة، بعض القيم المرتبطة بهذا العلم، كاعتبار كل ما يمكن أن يباع سلعة وموضوعاً لعلم الاقتصاد ولو كان هو العرض والطلب، وهذا ما لا يقبله الإسلام ولا شمله بقوانينه وتنظيماته المختلفة؛ لأن الإسلام يهدف وعلى عكس الاقتصاديات الشائعة لا إلى تعظيم الناتج فقط بل إلى إسعاد البشر وتحقيق إنسانيتهم بإنتاج الطيبات والتعاون على إيجاد الكرامة الإنسانية لكل البشر.
كيف تطور علم الاقتصاد الإسلامي واستفاد من العلوم الأخرى؟
– علم الاقتصاد الإسلامي يقوم على الاستفادة من القوانين الاقتصادية التي هي في الأساس قوانين طبيعية تدرك بالبديهة، بما يناسب ظروف مجتمعه وفلسفته في الإنتاج والاقتصاد والتداول والتوزيع، وكل هذه جوانب يختلف فيها الاقتصاد الإسلامي عن غيره من الاقتصاديات الغربية التي أثبتت التجربة ظلمها في كثير من القطاعات، ولذلك كانت تختلف نظرياتها تباعاً لعلاج أزمات لا لظهور حقائق علمية جديدة، وليس في الإسلام جانب من جوانب الدنيا إلا وله كلمة فيه، وصدق الخليل إبراهيم: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)، فنظرية متطورة وتملك رحابة التطوير والاستفادة من جميع النظريات الأخرى على ضوء ربانية المنهج والتطبيق.
أثبتت التجربة فشل الاشتراكية في تحقيق مطالب الشعوب وتوحش الرأسمالية، كيف نصنع اقتصاداً ينحاز للإنسان؟
– في الحقيقة، لم يعد هنالك نظام اقتصادي خالص؛ فلم تعد الرأسمالية هي تلك الفكرة التي نشأت في القرن السادس عشر، ولم تعد الاشتراكية هي نسخة ماركس الأولى نحو الشيوعية، بل ولا حتى الاشتراكيات التي نشأت عليها دول كروسيا عندما كانت ضمن الاتحاد السوفييتي؛ فقد أجبرت الظروف كل هذه النظم على تغيير الآليات وابتداع سياسات تواجه الأزمات هنا وهنالك، فعلى مستوى الرأسمالية اتخذت الإجراءات الاجتماعية التي تحفظ حقوق العمال والموظفين خاصة بعد ظهور النزعات الاشتراكية، وهذه الأخيرة وسعت من مجال الحرية الاقتصادية ومجال الملكية حتى تلبي الرغبات الطبيعية في الملكية والثراء.
الاقتصاد الإسلامي يعمل على إسعاد البشر وتحقيق إنسانيتهم
ولو انتقلنا خطوة أخرى لم يعد هناك نظام واحد يحكم العالم، وإن كانت الغلبة طبعاً للنظام الرأسمالي الذي بات يهيمن على الفكر، وفرض فلسفة التسليع والربح على السلوك الإنساني بطريقة أو بأخرى، والسياسات الدولية حالياً تقودها فكرة التنافس والاحتراب، وهذا الأخير يعتبر في مقدمة الأسباب التي عطلت مسيرة التنمية عالمياً، وساهمت بشكل صارخ في تعميق هوة الفقر وتوسيع الفجوة بين الدول والبشر هنا وهنالك.
تحضرني كلمة للمفكر الاقتصادي الكبير محمد شوقي الفنجري حين ضرب المثل بهذه الحالة بأن الأموال التي تنفق على تجهيز الجيوش بين المعسكرين الكبيرين الرأسمالي والاشتراكي تكفي لتدمير العالم مرات عديدة، ولو أنفقت بنفس النسبة تكفي لبناء العالم مرتين ولقضت على الفقر والأمية وحققت الرفاهية للمجتمعات الفقيرة.
ما الخصوصية التي يتمتع بها الاقتصاد الإسلامي حضارياً؟
– لقد قاد الاقتصاد الإسلامي حضارة كبيرة شاملة انطلاقاً من ربانية التوجيه، وبدأ التطبيق من خلال حاكم نبي ورسول، بل خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وسلم، واستطاعت هذه الدولة التي غلبت الحوافز الربانية أن ترث الإمبراطوريات الظالمة وأن تقودها إلى حضارة عُليا، ثم استمر الأمر هكذا إلى أن تعرضت الأمة لمؤامرة الاستعمار، ومع الأسف لم تكن على نفس القوة السابقة في السعي إلى العلم والاكتشاف والبحث فلم تجد من مقوماتها الدفاعية ما تحفظ به نفسها.
ما النموذج الملهم، في رأيك، لتحقيق الاقتصاد الإسلامي عربيًا؟
– وسط التحديات التي نعيشها الآن فقد وجد رجال مخلصون استفادوا من التكنولوجيا المالية الحديثة وعملوا على إعادة المجد لهذا الاقتصاد، فنشأت المصرفية الإسلامية عام 1975م، ولم تكن هذه التجربة محاولة استفادة من النظم المصرفية فقط، بل حملت فلسفة متكاملة أعادت بناء الاقتصاد الإسلامي، وفي طليعة هذه الجهود جهد الرائد صالح عبدالله كامل، رحمه الله، فقد كان أحد أفذاذ الاقتصاد الإسلامي على مستوى الفكر والتنظير والعمل والاضطلاع بالمسؤولية الاجتماعية، وهو بحق أبو المصرفية الإسلامية بما وفره من مؤسسات علمية واقتصادية رائدة، إلى جانب تأسيسه لمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامي، الذي يعد أعلى مؤسسة علمية متخصصة في الاقتصاد الإسلامي بمفهومه الشامل.