ظل الغرب الأوروبي عامة والغرب الأمريكي خاصة لسنوات طويلة يمثل رمز الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة ووجهة قلوب للتواقين للتحرر من كافة القيود المفروضة على ما يسمى بالعالم الثالث، سواء كانت حرية ثقافية أو سياسية أو أيديولوجية.
وظل حلم الهجرة الذي شهدت عليه قوارب الهجرة الغارقة في معظمها يراود ملايين الشباب للنزوح العقلي والروحي قبل الجسدي لتلك البلاد، تاركين خلفهم كل شيء؛ الأسرة والتاريخ والذكريات والحضارة والتقاليد والموروثات، وحلم الثورة الذي توقف عند اشتعالها ثم اختطافها بيد الخلافات والتشرذم وملاحقة كرسي الحكم.
لكن يبدو أن الغرب نفسه لم يستطع صبراً فبادر لكشف وجهه الآخر حين جد الجد، وحين أسفرت الحرية المزعومة على حقوق ليست لهم، وقد أقنعوا العالم طويلاً أنهم أصحابها، لقد كانت هناك رواية واحدة تخصهم، لكن هذه المرة لم يستطيعوا إثبات تلك الحقوق، وقد أقنعوا العالم بمحرقة لم يشهدها، واليوم لم يعد باستطاعتهم إنكار محرقة يشهد عليها الجميع، فانتفضت شعوبهم التي رأت بعينها، وانتفض طلابهم أصحاب المستقبل الواعد، فكشرت الحرية الغربية عن أنيابها تجاه افتضاح أمرها، وعرفوا ما لم يعرفوه من قبل من مصطلحات كانت يوماً معيرة للعالم الثالث؛ من اعتقال، ملاحقة، تعذيب، فصل من العمل، فصل من الجامعة، كل هذا مقابل تظاهرات سلمية وخلاف في الرأي.
تاريخ مشبوه وحريات مزعومة
الموقف الغربي تجاه الحريات حين تتعلق بالآخرين ليس وليد اليوم، أو تجاه القضية الفلسطينية وحدها حين تجاوزت معاييره كافة المقاييس الإنسانية والدولية المعروفة، ولم يكفه معيار واحد يحكم به بين طرفين متناحرين، أحدهما قام بغرسه بنفسه في قلب العروبة ليحرس مصالحه ويتحدث باسمه كابن لقيط لا يملك تاريخاً أو حقاً، ولا يستطيع الحفاظ على مستقبل بما أنه لا يملك ماضياً.
فالتاريخ الغربي تجاه الحريات مشبوه، وخير شاهد على ذلك ديمقراطيته في أفغانستان وفي العراق وفي غوانتانامو وأبو غريب، وتعامله مع المعارضين لسياساته الدموية تجاه الأبرياء، ومحاولة تجميع الجرائم الغربية تجاه المسلمين تحتاج لمجموعة من الأبحاث المطولة، وسنكتفي فقط بذكر بعض تلك الجرائم في بلادنا لإظهار حقيقة ديمقراطيتهم الموهومة:
ففي تحقيق لموقع «بي بي سي» يكشف تفاصيل جرائم ارتكبتها القوات الخاصة البريطانية في أفغانستان أعده هنا أوغراي، وجويل غانتر، في 12 يوليو 2022م، يقول التقرير: خلص تحقيق أجرته «بي بي سي» إلى أن عناصر تابعة للقوات الجوية الخاصة في أفغانستان ارتكبوا عمليات قتل بصفة متكررة بحق معتقلين ورجال عُزّل في ظروف مريبة.
واستطاعت خدمة «بي بي سي بانوراما» تحليل مئات الصفحات لروايات تتعلق بعمليات نفذتها القوات الجوية الخاصة، بما في ذلك تقارير عن شن ما يزيد على 12 غارة بهدف قتل أو أسر عناصر تابعة لـ«طالبان»، نفذها سرب من القوات الجوية الخاصة في ولاية هلمند خلال عامي 2010 و2011م.
وفي التقرير نفسه، يقول: وقال أفراد خدموا في هذا السرب لـ«بي بي سي»: إنهم شاهدوا عناصر القوات الجوية الخاصة يقتلون أشخاصاً عزّلاً من السلاح خلال الغارات الليلية، وأضافوا أنهم رأوا نشطاء لجؤوا إلى ما يعرف بـ«وضع أسلحة»، بنادق كلاشينكوف، في موقع الحادث لتبرير قتل أشخاص عزل من السلاح.
وقال كثيرون ممن خدموا في القوات الجوية الخاصة: إن أسراباً تابعة للقوات كانت تتنافس مع بعضها بعضاً لإسقاط أكبر عدد من القتلى، وإن السرب الذي فحصته «بي بي سي» كان يحاول إسقاط أكبر عدد من القتلى مقارنة بالسرب السابق له.
وفي تقرير أجراه موقع «فرانس24»، في 15 نوفمبر 2016م، بعنوان «الجنائية الدولية: دلائل تشير إلى ارتكاب القوات الأمريكية جرائم حرب في أفغانستان»، يقول في بعض فقراته: صرحت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بن سودا أن القوات الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية قد تكونان ارتكبتا جرائم حرب في أفغانستان، خاصة القيام بأعمال تعذيب بحق معتقلين.
كما أشار تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي زارت سجن أبو غريب بالعراق أن ما بين 70 إلى 90% من المعتقلين العراقيين عند الأمريكيين اعتقلوا بالخطأ، وأنه تم إحالة 600 فقط للمحاكمة من بين 43 ألف معتقل، كما أن هذه الاعتقالات كانت عشوائية.
كما ذكر التقرير وسائل التعذيب المستخدمة في السجن، ومن بينها إجبار السجناء على لبس الأقنعة وأغطية الرأس لمدة 4 أيام متتالية، كما عاينت اللجنة وجود سجناء عراة، ورصدت تصرفات القوات البريطانية في مواجهة المعتقلين التي من بينها وضع معتقلين وهم عراة في ظلام دامس، وأُجبر آخرون على ارتداء ثياب نسائية، وقد تابع العالم تلك المشاهد بعد افتضاحها إعلامياً ولا يستطيع أحد أن يدعي أنها ممارسات استثنائية في سياسة الولايات المتحدة تجاه المعارضين عامة والمسلمين خاصة، والشواهد على ذلك تاريخياً لا تعد ولا يمكن حصرها في مقال.
مؤسسات دولية يجب وقفها
ومما يدعو للسخرية أن تأتي قرارات الجنائية الدولية في هذا الوقت الحرج لتساوي بين الجاني والضحية، والمحتل وصاحب الأرض، وتخالف القوانين الدولية بأحقية صاحب الأرض بالدفاع عن ممتلكاته بكافة السبل المتاحة، ليس هذا فقط، بل يصرح رئيس مجلس النواب الأمريكي قائلاً: «ليس للمحكمة الجنائية الدولية سلطة على «إسرائيل» أو الولايات المتحدة، قرار المحكمة الجنائية غير مشروع ولا أساس له ويجب أن يواجه بإدانة عالمية».
أما نتنياهو فقد قال: «إن الأمر السخيف والكاذب الذي أصدره المدعي العام في لاهاي ليس موجهًا فقط ضد رئيس وزراء «إسرائيل» ووزير الدفاع، بل إنه موجّه ضد دولة «إسرائيل» بأكملها».
كما أن وزير دفاع الكيان الصهيوني يوآف جالانت فقد قال: مقاربة المدعي العام لـ«الجنائية الدولية» بين «حماس» الإرهابية و«إسرائيل» أمر مثير للاشمئزاز .
أما بيني غانتس فقال: وضع قادة دولة تخوض معركة دفاع عن مواطنيها على قدم المساواة مع إرهابيين هو عمل أخلاقي، إن تلك المؤسسات التي صنعها الغرب لخدمة أغراضه هو دون مصالح الغير لم تعد صالحة للاستمرار، وإن انتزاع الريادة من الغرب وفرض قوانين أكثر عدالة أصبح واجب الإنسانية بعد انكشفت الحقائق كاملة.
انكشاف الديمقراطية الغربية داخل بلادها
لم تستطع الديمقراطية الغربية كذلك أن تخفي وجهها الوحشي أمام مواطنيها بداية من بعض الحوادث المتفرقة، كحادثة تعامل الشرطة الأمريكية مع المواطن الأمريكي جورج فلويد، والتسبب في مقتله لمجرد لونه، مما أدى لانتشار تظاهرات في الولايات المتحدة وبعض العواصم الغربية على أثرها مما دل على وجود حالة من الاحتقان الإنساني الغربي تجاه ممارسات الأجهزة الأمنية وأنظمة الحكم، تبلورت مؤخراً في التظاهرات الضخمة التي خرجت دعماً للقضية الفلسطينية لتنتقل من الشارع الغربي إلى أروقة معظم الجامعات بين فئة الطلاب والشباب خاصة في دلالة على تغيير حالة الوعي الجمعي في تلك المجتمعات عن حقيقة الديمقراطية الزائفة التي تبنت وجهة واحدة ساهمت في دعم القاتل ضد المقتول.
لقد انكشف الوجه العنصري الغربي أمام مواطنيه منذ السابع من أكتوبر 2023م بعد معركة «طوفان الأقصى»؛ مما أسفر عن انتقال الغضب من جامعة لأخرى ومن مدينة لمدينة، مما وضع النظام العالمي في حالة ارتباك وتخبط وحرج في التعامل مع هذه الحالة غير المسبوقة، فتارة يتم التعامل معها بما يشبه تعامل الأنظمة الشمولية مع معارضيها بوحشية وعنف، وتارة أخرى تطالب الأجهزة المعنية بإطلاق الحريات للطلاب في إثبات مواقفهم المعارضة والغاضبة.
والغريب في الأمر أنه بالرغم من ذلك الغضب المتحرك، فإن البعض في بلادنا ما زال يعول على الموقف الغربي لحل القضية في الوقت الذي كفرت به شعوبه من إرادته لحلها من الأساس، لقد انكسرت مؤخراً حدة السيطرة المفروضة للإعلام الغربي داخل بلاده والذي تعامل بالكذب ثم الكذب في حرب ساهمت قنوات مثل «الجزيرة» -التي أوقفوها مؤخراً في عقر ما تشدقوا دوماً بأنه الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط- وبعد أن تابع العالم الحقيقة مجردة على شاشة تلفزيونية عربية.
وأخيراً، فإن القرارات الغربية المقبلة سوف تضع في اعتباراتها مرغمة تلك الحالة من الوعي العالمي والمحلي تجاه زعمها بحراسة الديمقراطية والحرية وتلك القيم التي طالما تجملت بها في مواجهة واقع هي في حقيقتها بعيدة كل البعد عنه، وربما سوف تدفع تلك الحقيقة الأنظمة الغربية «للعب على المكشوف» لتحقق أكبر كسب غير مشروع لفكرتها العنصرية، لكن العجلة أبداً لا تعود للوراء، وما هو آت سوف تسطره الشعوب، لينطلق العالم نحو الأمام عدة خطوات في صالح البشرية، ولن تجدي كذبة أخرى في مواجهة الحقيقة الثابتة رأي العين والعقل.