ثمة وجهتا نظر متباينتان تجاه ما اصطلح عليه بالمجتمع المدني، وهو تباين لا ينحصر في تعريف المصطلح، فذلك ربما هو سمة الكثير من المصطلحات سواء كانت سياسية أو فكرية أو فلسفية، ولكن التباين المراد هنا يتعلق بموقف المجتمع المدني ودوره في التعاطي مع القيم الرأسمالية.
هذا التباين نابع إما من الاختلاف الطبقي أو الفكري والأيديولوجي لأصحاب الرؤى أو من طبيعة زاوية نظر أصحاب كل رؤية لفاعلية المجتمع المدني، فضلاً عن تقييمهم لشكل العلاقة بينه وبين الدولة ومؤسساتها؛ الأمر الذي يدفع وباستمرار لتكرار طرح التساؤل حول أهمية دور المجتمع المدني للعمل على تحقيق تطلعات أي مجتمع يتعرض لتغول أي قيم ذات سيادة لا تستهدف إلا تلبية احتياجات النخبة الحاكمة وأعوانها.
المجتمع المدني والرأسمالية
يمكننا الانطلاق في الكشف عن وجهتي النظر هاتين عبر تسليط الضوء على المدرسة الاشتراكية التي وكعادتها – نتيجة لتشعب اتجاهاتها- قد انقسمت رؤيتها حول تقييم المجتمع المدني لاتجاهين أساسيين:
الأول: رؤية يتبناها بعض الماركسيين الذين يرون أن مفهوم المجتمع المدني مفهوم برجوازي يطمس الصراع الطبقي ويلغي دور الأحزاب الشيوعية في تحقيق الاشتراكية، وعليه؛ فإن المجتمع المدني ليس إلا المجتمع البرجوازي الذي يحكمه اقتصاد السوق، كون أن المواطنة في المشروع السياسي للبرجوازية تفترض المساواة التي لا تتحقق، حيث يخضع المواطن في ظلها للاستغلال والتفاوت الطبقي الشديد ليكون المجتمع المدني أداة لخدمته باعتباره لعبة سياسية تعمل على تحصين الدولة من الاضطرابات الاجتماعية وتخدم مصلحة البرجوازية، مهما اعتبر المشاركون بهذه اللعبة أنهم بعيدون عن السلطة الرأسمالية، وهو ما دفع ماركس إلى أن يخلص لوصف المجتمع المدني بأنه وهْم من أوهام الرأسمالية.
وبالطبع، فإن هذا الموقف المحقر لدور المجتمع المدني لم يقتصر على الماركسيين، بل أخذ به الراديكاليون من مختلف المدارس السياسية والأيديولوجية بما فيها الجماعات والتنظيمات المسلحة، حتى وإن اختلفت فلسفة الرفض لدى كل طرف، وإن كان المشترك بينهم أحياناً ربما الرغبة في التمايز الفكري لدعم التمايز التنظيمي.
وأما الثاني: رؤية اعتمدت أيضاً على ما قدمه ماركس في بدايات أطروحاته حيث كان متأثراً بهيجل الذي كان يسمي المجتمع المدني بالطبقات الأساسية، وهي الرؤية التي أخذ بها بعض الاشتراكيين فيما تتوافق مع الرؤى الغالبة للناشطين والفاعلين بالمجتمع المدني الذين ينظرون لمؤسساته باعتبارها وسيلة ضرورية للنهوض بالعمل الاجتماعي الذي يرتكز على معان إنسانية، وأنها شريك أساسي في بناء المجتمع العادل والديمقراطي.
وهنا نلفت النظر إلى أن أصحاب هذه الرؤية من غير اليساريين يستندون إلى أنه رغم الثرثرة حول الصراع الطبقي لم يحدث هذا الصراع وفق التصور الذي طرحه ماركس في نظريته عن «الحتمية التاريخية»، حيث الصراع بين الطبقة العاملة والبرجوازية، ومن ثم سقوط النظام الرأسمالي واستلام الطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين للسلطة وبناء المجتمع الشيوعي، فيما أكد الواقع أنه لا يمكن تطوير اقتصاد بقوة عمل غير مهنية وتفتقد لمعرفة التكنولوجيات التي بدأت تتطور وتحول الصناعة إلى علم وليس إلى قوة عضلات، وهو ما يعني أن تطوراً كبيراً شهدته الدولة الرأسمالية ومن ثم أضحت تدرك أهمية المجتمع المدني في تفعيل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ليكون المجتمع المدني بذلك ثالث ثلاثة في شراكة للتعبير عن تكامل علاقات اجتماعية متوازنة.
شهادة التاريخ
أمام هذا التباين وحتى يمكننا الخروج بنتيجة إيجابية نستطيع البناء عليها، يجدر بنا أن نعرج ولو سريعاً على التعريف الأقرب للواقع لمصطلح المجتمع المدني، وهل ثمة محطات أكدت خلالها مؤسساته أنها قامت بدور فعال في مواجهة قيم الرأسمالية المتوحشة، أم أنه كما يرى الراديكاليون لا يعدو عن كونه أداة برجوازية؟
لقد سبق وأشرنا في السطور السابقة إلى أن هناك اختلافات حول تعريف مصطلح المجتمع المدني ليس بين الفاعلين السياسيين لكن أيضاً بين الفلاسفة، غير أنه يمكن القول: إنه مصطلح يشير «إلى الهيئات والمؤسسات غير الحكومية وغير الربحية التي تنشط في المجتمع بشكل مستقل عن الحكومة والقطاع الخاص ويهدف إلى تحقيق الخير العام وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة وغيرها من القضايا الاجتماعية والبيئية»، ما يعني أن ثمة معايير خاصة حول طبيعة مؤسساته والأدوار التي تقوم بها فيما يعد الإخلال بها تجاوزاً للمفهوم.
في ضوء ذلك، كان للمجتمع المدني دوره الحقيقي والنضالي على مدار عقود خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في مواجهة توحش الرأسمالية، حيث قدم المجتمع المدني بمؤسساته المتعددة الكثير من التضحيات التي ساهمت بشكل أو بآخر في عمليات الإصلاح التي شهدتها الرأسمالية للوصول إلى ما أطلق عليه «دولة الرفاه»، التي عملت على تعزيز وحماية الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين على أساس مبادئ تكافؤ الفرص والتّوزيع العادل للثروة والمسؤوليّة العامة للمواطنين غير القادرين، فضلاً عن تمويل الدولة للمؤسساتِ الحكومية للرعاية الصحية والتعليم وغير ذلك.
ولعله يمكننا أن نرصد بعض النماذج للدور الذي قام به المجتمع المدني لتحقيق دولة الرفاه، ومنها حركة العمال البريطانية في القرن الـ19 التي نادت بتحسين أوضاع العمال حتى تم إقرار قوانين عمل خاصة بذلك، وكذلك ما قامت به حركة النساء في كل من بريطانيا وأمريكا لانتزاع حق التصويت في الانتخابات، والإضرابات العمالية في فرنسا في القرن الـ20، التي دفعت لتحسين الأجور وظروف العمل وسن إصلاحات في قوانين العمل ونظام الرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى ما قامت به حركة الحقوق المدنية في أمريكا لمحاربة التمييز العنصري وتحقيق المساواة.
وبكل تأكيد، فإن نتائج هذا الدور وبرغم أنه لم يقض على تغول الرأسمالية في العديد من البلدان، فإنه حجّم من هذا التغول إلى حد كبير؛ الأمر الذي ربما فرض على الرأسمالية خاصة في دول المهد اتخاذ إجراءات إصلاحية ما منحها القدرة على البقاء حتى الآن.
الدور المنشود
بعيداً عن منطلقات كل من المدرستين الرأسمالية والاشتراكية في النظر للمجتمع المدني وكونه أداة برجوازية أم لا، فإن كلاً من تاريخ وواقع المجتمع المدني يؤكدان مدى فاعليته في التعبير عن نضالات الشعوب ووسائلها التي تتيح مشاركة طبقاته المختلفة لإنجاز المزيد من الحقوق العامة، فيما أن البديل يعني أحد خيارين؛ إما الانكفاء أو الاستسلام لتغول النخبة أياً كانت طبيعتها؛ وهو ما يعني المزيد من الانسحاق والاستغلال، وإما الرفض على النمط الراديكالي الذي يتسم بالصدام الذي تكون التضحيات خلاله فوق الوصف ولا تؤمَن عواقبه.
لا مفر، إذن، في حال كنا جادين في مواجهة تغول الرأسمالية، في بلداننا المحسوب أغلبها على دول «الذيل»، من تفعيل المجتمع المدني للقيام بدوره المنوط به حيث ممارسة الضغط العام بأشكاله السياسية الاحتجاجية أو الإعلامية أو التفاعلية، والعمل على نشر الوعي عبر كل الوسائل المتاحة للتحذير والحد من أثر وخطورة الرأسمالية على المجتمعات والبيئة والمنظومات القيمية، والدفع لتبني سياسات تحافظ على العدالة الاجتماعية وتحمي البيئة فضلاً عن تعزيز التضامن بين الفئات المتضررة.