الإفتاء عمل دقيق ومسؤولية عظيمة، يتطلب علماً واسعاً وفهماً عميقاً للشريعة الإسلامية، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التهاون في هذا الأمر بقوله: «أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار»، وهذا التحذير يشير إلى أن التجرؤ على الإفتاء دون علم كافٍ يقود صاحبه إلى عواقب وخيمة.
في عصرنا الحالي، يلاحظ البعض انتشار الفتاوى من أشخاص يفتقرون إلى المؤهلات اللازمة، حيث أصبح البعض يعطي لنفسه حق التصدي للإفتاء لمجرد حفظه بعض الآيات القرآنية أو اطلاعه السطحي على السُّنة النبوية، هذا الوضع يثير تساؤلات مهمة حول مدى أهلية هؤلاء الأشخاص لإصدار الفتاوى وتأثير ذلك على المجتمع.
في هذا السياق، سنعرض آراء بعض علماء الشرع الذين يوضحون الشروط والضوابط التي يجب توافرها في المفتي، وأهمية الرجوع إلى أهل العلم المتخصصين لتجنب الفتاوى غير المؤهلة التي قد تضل الناس وتضرهم.
في البداية، حذر د. عجيل النشمي، عميد كلية الشريعة سابقاً، عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي والمجمع الفقهي الإسلامي، لـ«المجتمع»: من ترك الفتوى لكل من لديه معرفة سطحية بالعلوم الشرعية، مؤكداً ضرورة أن يكون المفتي مؤهلاً ومشهوداً له بالصلاح، وله خبرة واسعة في العلوم الشرعية، وقادرًا على تحليل الأدلة الشرعية ومعرفة الراجح من المرجوح، مع إدراك جيد للواقع الذي يتم طرح الأسئلة فيه.
وأوضح د. النشمي أن الفتاوى تنقسم إلى نوعين؛ الأول: الفتاوى الفردية المتعلقة بقضايا الحلال والحرام في العلاقات الأسرية والزوجية، وهذه يكفي فيها المفتون في كل بلد، حيث يقبل فيها الاختلاف وتكفي فيها آراء المفتين المحليين.
الثاني: القضايا المعاصرة المعقدة مثل القضايا الطبية والاقتصادية وقضايا البنوك، وهذه تحتاج إلى نوعين من جهات الفتوى؛ الأول: هيئات الفتوى في المؤسسات المختصة، خاصة الاقتصادية منها، والثاني: المجامع الفقهية الشاملة التي تجمع آراء متعددة في الموضوع الواحد لإثراء النقاش والخروج برأي موحد يتم الاتفاق عليه بالأغلبية، ويجب أن يكون المشاركون في هذه المجامع من العلماء الراسخين في العلم دون تأثير خارجي عليهم، سواء كان سياسياً أو غيره، واعتبر مجمع الفقه الإسلامي مثالاً ناجحاً في هذا الصدد.
وأكد د. النشمي خطورة أمر الفتوى، إذ إنها تتعلق بالكشف عن حكم الشرع في وقائع أو نوازل جديدة؛ لذا، لا يمكن لغير المؤهلين أو ذوي المعرفة السطحية بالعلوم الشرعية أن يتصدوا لهذا الأمر؛ لأن من يقوم بالاستنباط يجب أن يكون ملمًا بأدواته وكيفية استخدامها لاستخراج الأحكام من الأدلة التفصيلية؛ أي من القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
ومن جانبه، قال د. خالد المذكور، رئيس لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف: الإسلام حذّر من اتباع آراء غير المؤهلين علميًا؛ لأنهم يضلون الناس ويضلون أنفسهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ لا يَقبِضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولكنْ يقبضُ العِلمَ بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتّخذَ الناسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغير عِلم، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا»، فمن يفتي بغير علم يترتب على ذلك ضياع الأرواح والأموال والأعراض، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفتى بغير علم فكأنما ذبح بغير سكين».
وأشار د. المذكور إلى أنه يجب على العلماء والدعاة، عند مواجهة الفتاوى التي تثير البلبلة والفتنة، الرجوع إلى المجامع الفقهية الرسمية أو لجان الفتوى المعتمدة، لأنها تتحمل مسؤولية الفتوى إذا كانت خاطئة، وحذر من خطورة إصدار الفتاوى دون علم، مؤكدًا أن هذا يؤدي إلى مشكلات خطيرة، وأن المفتي الجاهل يجب منعه شرعًا حتى لا يؤثر في الناس بضعف رأيه أو جهله.
وأكد د. المذكور أن الإفتاء ليس مهمة سهلة، وأن العلماء الواعين بخطورته يتجنبونه تورعًا وخوفًا من سوء العاقبة، وأوضح أن الفقهاء وضعوا شروطًا عامة لمن يتصدى للإفتاء، منها أن يكون عالمًا بأصول الفقه، مُلمًا باجتهادات العلماء الآخرين وأدلتهم، عارفًا بالناسخ والمنسوخ والراجح والمرجوح، ومتقنًا لقواعد اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة.
ودعا د. المذكور إلى أهمية الاجتهاد الجماعي والابتعاد قدر الإمكان عن الاجتهاد الفردي، خصوصًا في القضايا الحيوية التي تهم الأمة، هذه القضايا يجب أن تُدرس من قِبَل عدد كبير من الفقهاء والعلماء لإصدار فتوى جماعية بشأنها، لأن الاجتهاد الجماعي يجمع بين عدة صفات لا تتوافر في الاجتهاد الفردي، حيث تُكتب العديد من الأبحاث، وتخضع لمناقشات طويلة، وقد تُرجح بعض الآراء نتيجة هذه المناقشات، ثم تصدر القرارات والتوصيات بناءً على ما توصل إليه العلماء، مما يجعلها قوية ومنسقة ومراعية لمصلحة الأمة الإسلامية.