تأملات في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب 23).
هزات متتالية وأمواج عاتية وعواصف متتابعة، تلكم هي الأجواء وهذه كانت الأنباء، فقد قلَّ النصير، وتكالب الأعداء، واجتمع الأحزاب، وأرجف كل منافق مرتاب.
فرح المخلفون، واستبشر الخائنون، وأعان الظالمون الظالمين، وافترى البغاة على المصلحين، وتطاول كل أفاك أثيم، وعلا كل سفيه لئيم.
لكن قلة مؤمنة عزمت ورشدت، أيقنت وتوكلت، صبرت وثبتت، تنقت وترقت، سمت وارتفعت، تخلت فتحلت، أحسنت وأفلحت.
استمدت ثباتها من إيمان عميق، وفهم دقيق، واتصال بربها وثيق.
كسرت صخرات اليأس بمعول الأمل، وواجهت أعداءها بالفعل لا بالقول.
قلة هي لكنها في الميزان ثقيلة وفي الثبات عظيمة، تعيد اتزان الأمة وتسعى لكشف الغمة، تقيل العثرات، وتسد الثغرات.
نرحل زماناً ومكاناً إليهم هناك، في المدينة المنورة، وحدث جسيم، وموقف مأهول مفرداته: أحزاب، منافقون، يهود غادرون، مرجفون في مقابل قلة مؤمنين، صادقين صابرين على عهدهم مع نبيهم باقين.
رغم التجويع والحصار ومكر الأعداء في الليل والنهار، حتى بلغت القلوب الحناجر، وظن كل مقامر أن النصر حليف المكابر.
وبعد كل ما كان، انجلت الغمامة السوداء، وظهر الحق شمساً في السماء، وكان نصراً عزيزاً شهد به حتى الأعداء.
تشتت الكافرون وخنس المنافقون، صمت المنافقون وعوقب الغادرون.
القلة انتصرت وحلقت، سطرت -بقيادة حبيبها وحبيبنا صلى الله عليه وسلم- سطور فخار ودواوين عز، كتبت بمداد من نور صفحات من نور النور.
فلا غرو أن يتنزل الوحي فيهم وعنهم، ويقلدهم القرآن شهادة تسمو بهم وترفع قدرهم وتوثق جميل وجليل قدرهم.
واتلُ، أيها القارئ، كلمات الله فيهم، وتأمل هذه الآية الجليلة وهي تبين نبل مواقفهم وروعة أوصافهم؛ قال تعالى في كتابه العزيز: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، ويا لها من آية جليلة وشهادة عظيمة، خلَّدت ذكرهم وأظهرت سمو مخبرهم.
وللآية نفحات عطرة تتضوع شذى ورياحين في كل حين، ودلالاتها تتجاوز الزمان والمكان، وما سلف من العصر والأوان، ظلالها وارفة وتجلياتها ممتدة، يتخذها الصابرون الصادقون، الراسخون المخلصون، أهل الثبات وأرباب الصمود، يتخذونها أيقونة للثبات ومعلماً للكفاح، يستلهمون دروسها ويسيرون على درب الصحابة الذين صاغوا وصنعوا أمجادها.
ورحلة في تاريخ أمتنا ماضياً وحاضراً تجعلنا نرى نسيجاً مقارباً لأولئك الأطهار الذين حدثتنا عنهم هذه الآية الجليلة، وكأنما الآية تعيد تنزلها حيناً بعد حين، وتتكرر علينا دروسها وأحداثها وإن اختلفت شخوصها وتغيرت أماكن أحداثها، وتنوعت تفاصيلها.
ولعل كثيراً مما ورد في الآية من إشارات لألق المشاهد وجمالها، وزوايا الأحداث بكل مهابتها ودقتها وروعتها، لعله يغدو اليوم أكثر وضوحاً وتجلياً في قطعة من أرض الرباط المباركة، هناك قريبا منا في غزة الأبية وهي تقارع الصهيونية ومن والاهم من أعداء الإنسانية، وقد تكالب على هذه الصابرة العصية حكومات غربية وشرقية، داعمين ومؤيدين لتلك العصابات المجرمة من الصهاينة المعتدين الذين لم يتركوا سبيلاً ليكسروا شوكة تلك القلة المرابطة الصابرة إلا سلكوه فشردوا وقتلوا، دمروا وانتهكوا، استباحوا واعتدوا، تحالفوا وتأمروا، زوروا وكذبوا، ولكن هيهات هيهات،، فهؤلاء على أثر أولئك الصحابة الأخيار، صبراً واحتساباً، ثباتاً ورسوخاً، صدقاً ووفاء.
وقريباً، بتوفيق من ربهم ومولاهم، سيثمر جهادهم وتعلو راياتهم ويقهر عدوهم ويندم من خذلهم ويفرح معهم من أيدهم ونصرهم.