حج بيت الله الحرام عبادة عظيمة وذات مقاصد جليلة، ومن أعظم هذه المقاصد إقامة ذكر الله عز وجل، يقول الله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج).
أولاً: الحج كله ذكر:
بمجرد الإحرام يلبي الحاج: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك الله»، فالتلبية هي أول منازل الذكر في الحج، وفي كل موضع من مواضع الحج ذكر أوصى الله به حجاج بيته تعالى، والتلبية هي إعلان الاستجابة والخضوع التام لله عز وجل، وهي إعلان براءة من كل شرك، واعتراف كامل بعدم اللجوء لغيره أو الاستعانة بغير الله سبحانه، وهي توجيه لمن أنفق ماله وترك وطنه ودياره أن يخلص عبادته القلبية والبدنية لله، فلا شريك له، والحمد كله له، والنعمة والفضل ليس لغيره.
ثانياً: الذكر يوم عرفة:
من أهم أوقات الذكر والدعاء هو موقف يوم عرفة، وأفضل ذلك كلمة التوحيد، وفي «الموطأ» عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» (الحديث حسنه الألباني).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي يوم عرفة بالذكر والدعاء، وأنه عليه الصلاة والسلام بعدما صلى الظهر والعصر في نمرة جمعاً وقصراً ذهب إلى عرفة فلم يزل يذكر الله تعالى ويدعوه حتى غربت الشمس.
ثالثاً: الذكر يوم النحر:
يقول الله عز وجل عن التكبير على الأضحية وقت الذبح: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج: 37)، فالغرض ليس الأضحية في حد ذاتها، وإنما التكبير وذكر الله، وعند الذبح يُستحب أن يقول: «بِسْمِ اللَّهِ واللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وسَلّم، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، تَقَبَّلْ مِنِّي، أو تَقَبَّلْ مِنْ فُلانٍ إن كان يذبحه عن غيره»، وعند الحلق بعد الذبح مع وضع اليد على الجبين يُستحب أن يقول: «الحَمْدُ لله على ما هَدَانا، والحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتي فَتَقَبَّلْ مِنِّي وَاغْفِرْ لي ذُنُوبي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وللْمُحَلِّقِينَ والمُقَصِّرِينَ، يا وَاسِعَ المَغْفِرَةِ آمِين»، وبعد الحلق يُستحب أن يقول: «الحَمْدُ لِلَّهِ الذي قَضَى عَنَّا نُسُكَنا، اللَّهُمَّ زِدْنا إيمَاناً ويقينا وَعَوناً، وَاغْفِرْ لَنَا ولآبائِنا وأُمَّهاتِنا والمُسْلِمينَ أجْمَعِينَ»، ويستحب أن يكبّر الحاج ويقولها بعد الحلق.
رابعاً: الذكر في المشعر الحرام:
من أذكار الحج المهمة كذلك ما جاء في قول الله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) (البقرة: 198)، والمشعر الحرام هو مزدلفة كما روى أبو إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون قال: سألت عبدالله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام(1).
وكذلك ما أخرجه الحافظ عبدالرازق الصنعاني من خبر سالم بن عبدالله قال: قال بن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها ذكر، ذلك وقال الحافظ ابن كثير: إنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم(2)، وهذا الأمر بذكر الله عز وجل في مزدلفة توجيه رباني إلى أن العبادة التي تشرع ليلة مزدلفة هي ذكر الله جل وعلا، فينبغي للحاج أن يكثر من الذكر في تلك الليلة.
خامساً: الذكر أيام التشريق:
مما جاء في ذلك قوله تبارك وتعالى: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة: 203)، وهي أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله»(3)، وقوله: «أيام أكل وشرب»؛ يعني أنه لا يشرع صيامهن.
وهذا الذكر الذي يشرع في هذه الأيام نوعان؛ ذكر مقيد بوقت معين وهو الذي يكون عقب الصلوات المكتوبة، وذكر مطلق وهو الذي يكون في سائر الأحوال، ويبدأ وقت الذكر على القول المشهور من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
وقد ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في قبته من أيام التشريق، وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل»، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير(4)، ومما جاء في ذلك قول الله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة: 200).
_______________________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 288)، والأرزقي في أخبار مكة (2/ 191).
(2) تفسير بن كثير (1/ 250).
(3) صحيح مسلم (1141).
(4) تفسير ابن كثير (1/ 253)، والحديث المذكور أخرجه ابن ماجه في سننه (905)، وابن خزيمة في صحيحه (4/ 279).