ليت شعري ماذا دهى الناس في هذا الزمان العجيب؟! أي منحدرات يهوون إليها وهم لا يدرون؟! وأي حياة غير كريمة يعيشون؟!
لقد أعزق الناس اعترافاً في هموم تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع، بل تفرغ الحياة إفراغاً من مضمونها وتجعلها بلا قيمة وبلا معنى، فهذا تستهلكه هموم الحياة والسعي وراء المناصب، وهذا تستهلكه هموم السعي وراء المال يجمعه؛ من حله أو حرامه، ويفني فيه عمره وصحته وذكاءه، وهذا تستهلكه ملذاته وشهواته الرخيصة، وهذا همومه تنصب في رعاية الأولاد بمعنى لا يرقى كثيرًا عن رعاية الحيوانات لبنيها، إذ كل ما يعنيه أن يوفر للبطون طعامًا وشرابًا وللأجسام ملبسًا وكساء، وهو من بعد يملأ هذه القلوب الغضة بماذا؟ بلا شيء إلاّ بآمال تافهة من اكتساب الدنيا واحتراز مناصب السبق فيها، وهؤلاء لا همّ لهم إلا تتبع أخبار الكرة أو الغانيات أو الممثلات أو غيرها من أصنام العصر التي نصبت بذكاء لتضيع معها أعمار الناس في غير طائل.
ساقني القدر يوماً أن أعمل مع رجال اشتعلت رؤوسهم أو ذوائبهم ببياض الوقار، وأحنت ظهورهم الأيام والليالي، وكم كنت أتمزق حين أسمعهم يتحدثون أو يتناقشون في أوقات فراغهم من مراجعات المراجعين، وكنت أسمع عجباً!
فلا حديث هناك إلاّ عن الترقيات والعلاوات والإجازات والتحسر على ما فات، وغبطة الأحياء أو الأموات –أو غيبتهم- لما أتوه من مال أو جاه أو سلطان، فإن فرغوا من ذلك فهناك حديث الذكريات والتلميحات والتصريحات حول حياتهم الخاصة.
كنت أعجب لما أرى وأسمع، ولا يسعني مع هؤلاء الآباء أو الأساتذة إلا التنبيه من حين لآخر برفق يتناسب مع الموقف إلى خطأ ما هم فيه، كنت أحاول أن أذكرهم هموم أخطر وأعظم وأجلّ ينبغي أن تشغل بال المسلم في هذا الزمان.
غيبة الإسلام عن مقعد قيادة البشرية، وتخلف المسلمين عن ركب الحضارة، وضيعتهم بين الأقوياء، وتكالب الأعداء عليهم من كل حدب وصوب، واسترخاص الدم المسلم في كل مكان، واستنزاف مقدرات أمتنا في كل بقعة، وعبثاً ما كنت أحاول، فقد تهدمت الصروح فما تغني لملمة الأحجار؟!
وكنت أعود هارباً إلى أعماق نفسي وفي قلبي ذلك المعنى الكبير، هذا حال الآباء، فما بال الأبناء؟
إن هذه النماذج قد توقع في قلوب الكثيرين الوهن والاستسلام واليأس من التغيير حيث يبدو الركام ثقيلاً، والتبعات ضخمة، والخطب جللاً، والمطلوب عظيماً، إن هذه النماذج التي تطالعنا صباح مساء تذكرنا بهزيمتنا الساحقة، وواقعنا المزري، هذا صحيح ولكنها لا ينبغي أن تكون مدعاة لليأس والقنوط والقعود، بل على العكس أراها تشحذ الهمة، همة الداعية الذي نذر نسه لله، ولإنقاذ هذه الأمة، هذا الإنقاذ الذي هو إنقاذ لنفسه أولاً وقبل كل شيء، فوضوح الطريق مهما بدأ صعباً باعث على مواصلة السير واستشراف النهاية، ورؤية الباطل في عنفوان طغيانه لا يزيد المؤمن إلا ثقة بإيمانه، واشتداد الظلمة بشير بقرب انبلاج الفجر.