كثير منا ولأسباب مختلفة اتخذ قراره بالسفر ومغادرة بلده ليبدأ حياة جديدة في بلد جديد، وعلى الأغلب فتلك الحياة تختلف عما اعتاده في بلده الأم، هناك تختلف الثقافة والعادات، وربما يختلف المظهر والملبس، بل ربما حتى تختلف اللغة والدين.
ومن هنا تبدأ المعادلة الصعبة بين اندماج الإنسان في المجتمع الجديد والتعايش معه هو وأسرته، والحفاظ على الهوية والتمسك بالدين والثقافة والعادات التي عاشها قبل تغريبته، يظل الواحد منا في تلك الحيرة الشديدة بين اعتبار حياته الجديدة في الغربة محطة مؤقتة ينبغي أن تمر سريعاً حتى يعود إلى وطنه الأم، ومن أجل ذلك لا يلقي المغترب بالاً للاندماج مع المجتمع الجديد والتفاعل مع ثقافاته وفنونه وسياساته، وتكون النتيجة أن تزيد العزلة بمرور الأعوام، وتتعقد الأمور بشكل أعمق مع دخول الأبناء مرحلة المراهقة ثم النضج في المجتمع الجديد.
وعلى الجانب الآخر، فهناك من يبدي انبهاراً بالمجتمع الجديد ويقبل على الانصهار فيه بكل قوة، ربما كان مدفوعاً ببؤس الواقع الذي عاشه في وطنه الأم ورغبته في تغيير نمط حياته، ولكنه يصطدم بالعديد من التحديات التي تبدأ منذ اليوم الأول، من ناحية قبول المجتمع الجديد له من عدمه، وإمكانية أن ينسلخ من هويته بمرور الوقت ولا سيما في الجيل الثاني والثالث من الأبناء.
ولأن دراسة التاريخ وتحديداً سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وفهمها الصحيح من أهم الوسائل للإجابة عن الكثير من الأسئلة والمواقف التي تعرض في حياتنا، فقد كان ذلك سبباً في البحث بين صفحات السيرة عن أقرب المواقف والفترات التي يمكن الرجوع إليها لتكون المرجع والدليل في فهم حياة المهجر بتفاصيلها.
هجرة المدينة كانت هجرة لإقامة الدولة الإسلامية الناشئة في مجتمع جديد يحمل نفس الثقافة واللغة والدين، وكل من هاجر إليها كان على علم بأنها مرحلة جديدة في حياته وليست تغريبة مؤقتة، وبالتالي فلا يسري عليها ما نبحث عنه وما يلائم واقعنا الحالي الذي يهرب فيه البعض من أوطانهم للبحث عن حياة أفضل من حيث الأمان والاستقرار.
أما ما يتشابه كثيراً مع حالة الغربة التي يعيشها الكثيرون في أيامنا هذه فهي هجرة الحبشة، حيث هاجرت مجموعة من المسلمين بعد أن ضاقت بهم أوطانهم، كان من الصعب عليهم مواصلة حياتهم في مكة، فالأبواب مغلقة، والأمان مفقود، وقد حوصروا وضُيِّق عليهم في قوت يومهم، وهنا جاءت الإشارة من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد»، لتبدأ رحلة الهجرة إلى بلد يختلف تماماً من حيث العادات والثقافة واللغة والدين، ولك أن تتخيل كم سنة عاشها المسلمون في الحبشة، ليست سنة، ولا خمساً، ولا حتى عشر سنوات، وإنما بلغت خمس عشرة سنة من الحياة الكاملة والتعايش في دولة ومجتمع يختلف تماماً عن واقع المسلمين في مكة.
ونبدأ بالموقف الشهير للنجاشي مع سيدنا جعفر بن أبي طالب، وهناك الكثير من الأسئلة المسكوت عنها التي سنحاول الإجابة عنها من خلال هذه السلسلة، ومنها على سبيل المثال: هل اندمج المهاجرون في مجتمع الحبشة الجديد، أم ظل اختلاف اللغة والثقافة والدين عائقاً للاندماج؟ أين سكن المهاجرون في الحبشة؟ ما نوع العمل الذي مارسوه لكسب رزقهم؟ وكيف كانت مصادر دخلهم؟
وهل تعلموا لغة بلاد المهجر (الحبشية)، أم اعتبروا أن وجودهم في الحبشة محطة مؤقتة ولا داعي لذلك؟ وهل احتفظوا بزيهم أم غيّروه توافقاً مع المجتمع الجديد؟ وإلى أي درجة وصل التواصل مع النظام السياسي لبلد المهجر؟ وهل ترك المسلمون أثراً في المجتمع الجديد؟ وكيف تعامل المسلمون في الحبشة مع محاولتي انقلاب على حاكم الدولة (النجاشي)؟ وكيف كانت رؤيتهم السياسية للتعامل مع مستجدات الأحداث؟
إذا علمنا بأن هناك من المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة من ارتد عن الإسلام وعاد إلى النصرانية، فإن ذلك يعطي مؤشراً واضحاً عن حجم التحديات والصعوبات التي قابلها المسلمون في المهجر، وعن آلام الغربة وتأثيرها على المغترب، لعلنا نتوقع أنه بعد استمرار المسلمين في الحبشة لأكثر من خمس عشرة سنة فلا بد أن هناك أعداداً غفيرة التحقت بالإسلام من أهل الحبشة، ولكن المفاجأة أن تلك الأعداد بقيت محدودة ولم يحدث توسع حقيقي للإسلام في أرض الحبشة، فما السبب في ذلك؟ هل حقاً أسلم النجاشي ملك الحبشة؟ ولو كانت الإجابة بنعم؛ أليست تلك فرصة مواتية لنشر الإسلام في كافة ربوع الدولة واستغلال نفوذ وسطوة الحاكم؟
تلك الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها بالتفصيل، والهدف الأساس هو استقاء الدروس والعبر من تلك التجربة الفريدة في التاريخ الإسلامي، التي لم تأخذ حقها الكافي من الكتابة والبحث، بل إن أكبر الصعوبات التي تواجه من يرغب في العلم والاستزادة عن هذه الفترة هي قلة المصادر التاريخية، فكتب السيرة المعروفة لم تتناول تفاصيل حياة المسلمين في الحبشة كما تناولت باقي أحداث السيرة في مكة والمدينة، قد يكون السبب في ذلك لبعد المكان من الناحية الجغرافية، وربما بسبب صعوبة التواصل، ولكن ذلك استلزم المزيد من البحث في مصادر السيرة والمراجع التاريخية العربية والأجنبية التي تناولت تلك الفترة بغرض الوصول لأكبر قدر من المعلومات، بالإضافة إلى التقصي الدقيق في المراجع والسير عن كل شخص من السبعة والثمانين المهاجرين الذين أجمعت كتب السيرة على هجرتهم للحبشة، للإبحار في تفاصيل حياتهم، والبحث بين السطور في يومياتهم، للخروج بأي معلومة إضافية تساعد في فهم تلك الفترة من تاريخنا، وكل ذلك بغرض استخلاص الدروس والعبر التي تساعدنا في فهم واقعنا بشكل أعمق، ولا سيما فقه الحياة في المهجر.
إذا أردنا أن نعرف بداية رحلة الإبحار إلى الحبشة، وأين كان مستقرها؟ وتحديات المهجر الجديد التي بدأت منذ اليوم الأول لهجرة الحبشة، وقصة الرشوة التي صاحبت تولي النجاشي للملك، وهل كانت هجرة الحبشة للفقراء والمستضعفين هرباً من بطش قريش أم أنها شملت الأغنياء والأعيان لتحقيق أهداف أخرى؟ فهذا ما سنحاول الكشف عنه بمزيد من التفصيل في الحلقة القادمة من السلسلة إن شاء الله تعالى.