ها نحن اليوم نستقبل العشر الأولى من ذي الحجة، وقد جاء في فضل هذه الأيام المباركات كثير من النصوص التي تثبت فضلها وفضل العمل فيها، منها قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1-2).
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد بها الأيام العشر من ذي الحجة، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أفضلية هذه الأيام وشهد بأنها أعظم أيام الدنيا، وأن العمل الصالح فيها أفضل من غيرها، كما ورد في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حيث قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) أخرجه البخاري (969)، وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) أخرجه أحمد (5446).
ومما يؤكد أفضلية هذه الأيام المباركات على غيرها أن بها يوم عرفة الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم) أخرجه مسلم (1348)، وهو يوم مغفرة الذنوب وصيامه يكفر سنتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) أخرجه مسلم (1162).
وفيها كذلك يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأيام عند الله تعالى، يوم النحر، ثم يوم القرّ) أخرجه أبو داود (1765).
ويوم القرّ: هو اليوم الذي يلي يوم النحر، أي اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، لأن الناس يستقرون فيه بمِنى بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحر واستراحوا.
وقد حظيت الأيام العشر من ذي الحجة بهذه المكانة والمنزلة لاجتماع أمهات العبادة فيها وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يجتمع ذلك في غيرها.
ومن اللطائف التي وردت عن علمائنا أنهم تكلموا في المفاضلة بين الأيام العشر من ذي الحجة، وبين العشر الأواخر من رمضان، ومن أفضل ما قيل في هذا ما ذهب إليه بعض العلماء من أن أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان الأخيرة، وليالي العشر من رمضان أفضل من ليالي العشر من ذي الحجة جمعاً بين النصوص الدالة على فضل كل منها، وفضلت ليالي العشر من رمضان لوجود ليلة القدر وهي من أعظم الليالي عند الله تعالى، وفضلت أيام العشر من ذي الحجة لوجود يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية.
من أعمال الأيام العشر
من أفضل ما يتقرب به المسلم إلى ربه عز وجل في هذه الأيام:
– التوبة النصوح، فهذه الأيام المباركة فرصة عظيمة لتجديد التوبة والرجوع إلى الله تعالى، والتزام طاعته والبعد عن كل ما يخالف أمره ونهيه قال تعالى: (…وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31)، والمؤمن في حاجة مستمرة إلى التوبة، والاستغفار.
– ومن أعمال عشر ذي الحجة الحج إلى بيت الله الحرام، فمن المعلوم أن بهذه الأيام فريضة الحج، والحج من أعظم أعمال البر، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل أو أي الأعمال خير فقال صلى الله عليه وسلم: (إيمان بالله ورسوله قيل ثم أي قال الجهاد سنام العمل قيل ثم أي قال ثم حج مبرور) أخرجه البخاري (1519)، ومسلم (83).
فيجب على المسلم إن تحققت لديه الاستطاعة (سعة في ماله، وصحة في جسده) أن يبادر بأداء هذه الفريضة العظيمة، لينال الأجر العظيم، فهي خير ما يؤدّى في هذه الأيام المباركة.
– ومن أعظم ما يتقرب به المسلم إلى ربه -سبحانه وتعالى- في هذه الأيام المحافظة على الواجبات وأدائها على الوجه الأكمل، وذلك بإحسانها وإتقانها وإتمامها، مع المحافظة على سننها وآدابها، وهي أول ما يجب أن ينشغل به العبد، قبل الإكثار من النوافل والسنن، ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت، وأنا أكره مساءته) صحيح البخاري (6502).
– وبعد أداء الفرائض يستحب للمسلم الإكثار من النوافل والمندوبات، اغتناماً لشرف الزمان، فيزيد مما كان يعمله في غير العشر، ويعمل ما لم يتيسر له عمله في غيرها، ويحرص على إشغال نفسه بطاعة الله تعالى من صلاة للنوافل، وتلاوة للقرآن، والدعاء والصدقة، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الناس، وأداء الحقوق، وغير ذلك من طرق الخير وأبوابه الكثيرة.
– ومن أفضل الأعمال في هذه الأيام الصيام، وهو بالإضافة إلى أنه داخل في عموم العمل الصالح إلا أنه قد ورد فيه أدلة على وجه الخصوص تؤكد استحبابه، فعن أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها قالت: (أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة) رواه أبو داود، والمقصود هنا صيام التسع، لأنه قد نُهِي عن صيام يوم العيد، وقال الإمام النووي عن صيام عشر ذي الحجة “صيامها مستحب استحباباً شديداً”، وآكدها صوم يوم عرفة لغير الحاج، فقد ثبت عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده، والسنة التي قبله) أخرجه مسلم (1162).
– ومن الأعمال كذلك الأضحية وهي سُنَّة مؤكدة في حق المستطيع، بل إن بعض العلماء أوجبها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم؛ إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا) أخرجه الترمذي (1493).
– ومن الأعمال التي ثبتت، الإكثار من ذكر الله عموما ومن التكبير خصوصاً لقول الله تعالى: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج:28)، وجمهور العلماء على أن المقصود بالآية الأيام العشر، ويسن إظهار التكبير المطلق من أول يوم من أيام ذي الحجة في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق وغيرها، يجهر به الرجال، وتسر به النساء، إعلاناً بتعظيم الله تعالى، ويستمر إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، وهو من السنن المهجورة التي ينبغي إحياؤها في هذه الأيام المباركة.