الذكر غيث رباني، ومدد نوراني، حضور وحبور، فرح وسرور، تنقى به القلوب وتحيا به الأرواح وتصفو به النفوس.
والمؤمن يسعى دائماً للاتصال الوثيق بربه، ويجاهد ليكون قلباً متعلقاً بمولاه، فيحيا في رياض الذكر، ويسعد في رحاب الفكر.
لكن لا شك أن للنفس هفواتها وللشياطين همزاتهم، وفي خضم الحياة ومع تقلبات أحوالها قد يفتر المؤمن وقد يعلو قلبه الصدأ، فتجتاحه رياح الغفلة تحاول أن تزعزع ثباته وتدفع به بعيداً عن واحة السكينة ودفء الطمأنينة.
والمؤمن لا يجد علاجاً لهذه الأدواء العارضة إلا دواء الذكر فيعود إليه من جديد، ويرجع إليه حيناً بعد حين ليكون درعه الحصينة وسنده المتين في مواجهة كل تلك المحاولات التي تسعى لتكدير صفوه وقطع تواصله بربه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).
ولأن المولى وهو الرب الحكيم الذي هو خبير بما في هذه النفس البشرية من أدواء، فهو أعلم بضعفها وبما يرقيها، وهو أدرى كيف يربيها وما الذي يزكيها، ولأن الإنسان مفطور على حب التجديد لا يستسيغ الروتين ويمل مرور الأيام على وتيرة واحدة، ولأن التمايز والتميز والتنوع سنن كونية تتناغم مع الفطرة الإنسانية والتركيبة البشرية، لذا فقد جعل الله لعباده أوقاتاً تختلف عن باقي الأوقات، وأياماً تتميز عن باقي الأيام، وحَبَا عباده المسلمين بأماكن وأزمان مباركة أعطاهم فيها فرصاً ثمينة وهبات كريمة، فتح لهم فيها أبواباً للخيرات وغمرهم فيها بالنفحات؛ فضاعف لهم الأجور ويسّر لهم الأمور، وجعل تلك الأزمان ميداناً للتنافس في الطاعات وسبيلاً للغفران ورفعة الدرجات.
وها نحن قد مد الله في أعمارنا حتى بلغنا خير أيام العام بشهادة خير الأنام صلى الله عليه وسلم الذي قال لنا: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام»؛ يعني الأيام العشر من ذي الحجة.
إنها العشر المباركات، موسم للفوز بالجنات وأيام فضليات مفرداتها: حج وإحرام، تلبية وتكبير، حمد وتهليل، سعي وطواف، أضحية وصدقات، نوافل وصلوات.. وزد ما شئت من أنواع البر والقربات.
وفي هذه الأيام الحسان هناك من يشد الرحال إلى هناك؛ مكة والمدينة، الكعبة والبيت الحرام، زمزم والمقام، منى ومزدلفة، عرفات والعقبة، يسعى الحاج على خطى هاجر ويرمي الجمار على خطى إبراهيم، ويطوف كما طاف الأنبياء والأولياء، ويؤدي المناسك متأسياً بصفوتهم سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما من حالت ظروفه دون بلوغ تلك المنازل وقلبه في هذه الأيام معلق بذاك المكان ولسان حاله ومقاله:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
فإن مولانا الكريم حاشاه أن يحرمنا لطائف هذه الأيام، بل جعلها للمسلمين جميعاً أياماً مباركات تستحب فيها الطاعات وتجاب فيها الدعوات.
ولعل أبرز ما يميز هذه الأيام مع جمال وجلال كل ما فيها ومع تنوع الطاعات التي ندبنا للمسارعة فيها، مع كل ذلك فإن لهذه الأيام تميزاً للحث على كثرة الذكر، خاصة ثلاثية التكبير والتهليل والتحميد، فإذا بالمؤمن لا ينفك هذه الأيام في كل أحواله قائماً أو قاعداً، ماشياً أو راكباً، قبيل وبعيد صلواته وفي كل أوقاته أن يردد: «الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد».
وهذه الثلاثية العطرة لها دلالتها وأبعادها.
ففي التكبير معان جليلة لا تخفى على أولي الألباب السائرين على درب الرشاد، وقد جعل الله التكبير مبتدأ للأذان ومفتاحاً للصلوات، معه ترتاح النفس ويسكن القلب؛ إذ يدرك أن الله أكبر مما يكدره، وأنه أعظم من تلك الأوجاع التي تؤلمه.
الله أكبر نداء يهز به المجاهدون قواعد الظالمين، ويدكون به حصون المجرمين.
وبمعية هذا النداء الجليل يرون الطواغيت أقزاماً، والأعداء صغاراً.
الله أكبر فمولانا كبير عظيم، فلا خوف ولا هواجس، لا تطير ولا تشاؤم، بل عمل وتفاؤل، سعي وتوكل.
وبعد تكبيرنا نردف التكبير بالتهليل «لا إله إلا الله»، وقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال عنها: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله».
«لا إله إلا الله» شعار الموحدين، ومفتاح الجنان، وأساس قبول الأعمال، تحررنا من العبودية لغير الله، وتفتخ لنا أبواب العزة والسؤدد، يهتف بها المؤذنون في المآذن فتخفق لها القلوب وترتاح لها الآذان، نتطهر بها من أردان الشرك وتسمو بنا إلى مقام العبودية لله ليكون مسيرنا على درب المرسلين وأولياء الله المصلحين.
«لا إله إلا الله» جمعت أمة بعد شتات، وأحيتها بعد موات، وأيقظتها بعد سبات، فكان توحيدها طريقاً لوحدتها، وتوحيدها ووحدتها سبيل عزتها.
وها هي جموع الحجيج هناك جاؤوا من كل فج عميق، تعددت لغاتهم وتنوعت أعراقهم لا فرق فيهم بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، جمعتهم «لا إله إلا الله»، فلا عجب أن يصدحوا في تلك البقعة المباركة: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
وخاتمة هذه الثلاثية الفواحة «ولله الحمد».
«لله الحمد» سبحانه أهل للمحامد كلها دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها من علينا فأسلمنا وتفضل علينا فجعلنا أتباع خير المرسلين وإمام المتقين.
«لله الحمد» معرفة بجليل النعم ورفعة الأحوال وعرفان لصاحب الفضل الكبير المتعال، اعتراف بعده اغتراف، إذ بعد الحمد باللسان شكر بالجوارح والجنان فزيادة وإحسان ومغفرة ورضوان من رب كريم رحمان.
فلا نبرح واحات الذكر خاصة في هذه الأيام، والإكثار، قلباً ولساناً، من ثلاثية الجمال والجلال، التكبير والتهليل والتحميد.